الصفحات

غدامس مدينة التراث 2016



"إنّ الذي اختار موقع غدامس و أنشأ فيه المدينة الخالدة، لا يعدو أنّ يكون أحد رجلين إمّا مهندساً بارعاً ومفكراً ناضجاً، أو رجلاً صالحاً أًلهمه الله الصواب ليسكن هذه الأرض الخصبة الآمنة من العوارض الطبيعية الشديدة" أ. بشير قاسم
بالفعل، تبدأ حكاية غدامس العتيقة من "القادوس" حيث يتفجر نبع الماء المسمى عين الفرس صافيا رقراقا، يمد المدينة بالحياة عبر قنوات تغذي سواقيها الرئيسة. والقادوس ساعة مائية قديمة علي شكل بناء مقبب يبادل حصص الماء بين السواقي منذ القدم ، يغذي المنازل و يسقي الأنعام والحرث، فتشرق حياة متكاملة الأركان في عمق الصحراء، حيث تتراءى غدامس لؤلؤة بيضاء أزلية، يحيط بها النخيل من كل جانب تحفها أخفاف المهاري غدوا و رواحا في رحلة موغلة في الزمن قادمة من عمق التاريخ.
وفي لفتة فلسفية، لا أظنه كان وليد الصدف أن يقع القادوس مباشرة تحت قبة مسجد يونس، وكأنه علامة منظورة لقيامه بالكيل و وفائه بالقسط، مشرفا علي مركز المدينة وأوسع ساحاتها المساة "ميدان القادوس"، والتي ترتبط بوشائج روحية مع أقدم مساجدها "الجامع العتيق" حيث مجالس شيوخها بالقرب، وكمظهر للكينونة الإسلامية مازجت الساحة بين الحضور الديني و التجاري، فكانت- وهي قلب للمدينة - تضج بشتى أنواع التبادل التجاري، وتشتهر ببيع الجلود خاصة، ويقال أن كلمة غدامس نفسها ترجمة لهذا النوع من التجارة.


ثم تتفرع الساحة إلي شوارع ملتوية إلي كل جانب تصل المدينة بعضها ببعض في نظام معماري فريد، يرتكز علي عزل حرارة الصحراء عبر التفافاتها السحرية وأسقفها المحكمة ، بحيث تمنح النفس إحساسا عاليا من السكينة و اللطف المناخي عبر تعاقبات الظل والضوء المنساب من فتحات الأسقف، جعلت بقربها مصاطب لتسامر كبار السن الذين يتعبهم غذ السير حثيثا، فيجدون فيها فرصة المجالسة وتبادل السؤال عن الأحوال في نظام اجتماعي يضاهي روعة المعمار، قد مازجته الألفة والمودة وعمرت جوانبه.


وعرفت غدامس بموقعها الذي تلتقي عنده الحدود الليبية والجزائرية والتونسية كحلقة وصل تربط الشمال الأوربي بالعمق الأفريقي، و بكونها محطة رئيسية للقوافل التجارية ومركزا حضاريا هاما، شاهدة بمكتبتها القديمة ومخطوطاتها النادرة، التي تسجل  لحضارات ما قبل التاريخ الجرمنتي، مرورا بالعهد الروماني والعصور الوسطى إلي قيام دولة الإسلام علي يد الفاتح عقبة بن نافع، فحفظت المدينة هويتها الدينية، و طابعها التراثي الأصيل حتى بعد وقوعها تحت النفوذ العثماني، والاستعمار الإيطالي الذي استمر إلي عهد قريب. لأجل ذلك اعتمدتها منظمة اليونسكو علي لائحة التراث العالمي عام 1986 كموقع أثري عالمي يتمتع بخصوصية التراث، والتنوع المعماري والهندسي الفذ الذي يناغم التقلبات القاسية للبيئة الصحراوية مع الوجود الإنساني في جدلية غربية من جدليات التأقلم. يرجع نشأة هذا الموقع حسب بعض التقديرات إلي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد.


يقول د.حسن وهبي "العمارة هي الفن العلمي لإقامة مباني تفي بالاحتياج المادي والنفسي والروحي للإنسان" يبدو أن هذا ينعكس جليا علي سكان المدينة، ثمٌ طابع من المهابة والسكينة يعلو محياهم، ضيافتهم نمط من السرور والانشراح، هم ابعد ما يكونون عن جفاء الصحراء وقسوتها، إذ نجد أثر خصوصية المنزل الغدامسي جليا في بساطة مكونه، و حرفية نقوشه، و انعكاس ألوانه ، و وفرة مراياه التي تكثف أشعة الضوء لتعاود نشرها عبر الفراغات المعتمة، ولا يكاد تصميم أي منزل يخلو من الكوات غير النافذة التي تحفظ جرار الماء و مباخر الطيب.


وعلي ذكر الطيب فإن نساء المدينة القديمة يحظين بنظام اجتماعي غاية في الخصوصية، إذ تتشابك أسطح المنازل بممرات للتزاوروالتبادل التجاري، يُمنع مرور الرجال بها، فهي علي هذا مدينة نسائية متكاملة تقبع فوق المدينة .   
ويشيد البناء الغدامسي بمواد محلية الصنع من الحجارة والطوب الطيني و الجبس الذي يغطي الجدران والقباب، و يسقف بجذوع النخل، ويرص الجريد -عادة - ليمنع تسرب الجبس بين الطوابق، ثم تطلي السقف والجدران بالجير فتكسبه اللون الأبيض الذي يضاعف المساحات للعين وتنشرح له النفس، والأهم فهو يعكس أشعة الشمس عن الأسطح فيخفف وقع اشتدادها ولظاها .


ومتى ما أسهبنا في وصف غدامس فإن أكثر مما نقول ما ندع، ولأن ذاكرة الأمم هي الركيزة الحقيقية التي تشيد الحاضر وتتطلع نحو المستقبل، كانت هذه جولة للقلم عبر الكلمات المحلقة  بأجوائها، حيث الأماكن التي تعلق بالفكر فيلتزم بها، ومع مطلع العام المقبل تستلم المدينة درع الإتحاد الدولي للإعلام العربي، لسبقها إلي المركز الأول ضمن مجموعة من مدن التراث العربي المتنافسة علي لقب "مدينة التراث 2016" للحقيقة غدامس لم تكن المتميزة الوحيدة لكنها بالنسبة لنا تعني الكثير.   

بقلمي : somia