نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

ثرثرة على مشارف يناير


قرأت ذات مرة للأديب الرافعي عبارة تقول “إذا استقبلت العالم بالنفس الواسعة رأيت حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيق لا هي” على هذا النحو ارتأيت استقبال القادم الجديد، الغامض فيما يحمله، مثير البدايات بما ينطوي عليه من معاني التجديد، مودّعة بامتنان عامي الذي مضى لا لأنه كان على خير ما يرام، ولكن لأنني مدينة له بكمٍ من التجارب والمعرفة التي لا يُنكر فضلها، وَلَكمْ كان عاما استثنائيا على أكثرنا فلقد عرفتّنا الحياة وجهها الأكثر بؤسا حين شوهت وجه هذا الوطن، على هذا ارتبطت أنفاس الحياة بوشائج متينة الصلة مع الأمل فما ثمّ إلا حياة نرجوها كالjanuary-1041611_640حياة.
كنت أعلم أن الوطن هو البيت والعائلة، هو الطرقات وصباحات العمل والأصدقاء، هو الفرح المختلس بعيدا عن أحاديث السياسة ونشرة الأخبار، حتى حيل بيني وبين الطريق المؤدي إلى واجهة البحر والمنارة فعلمت بأنهما كانتا وطنا آخرا لم أدركه إلا بفقده، واليوم صرت أعبر الطرقات الجانبية مطمئنة إلى عشوائية الموت مهما كان ممنهجا، فللقدر تراتيب أخر لا يمكن  لأفهامنا أن ترقى إليها بحال، عفوا.. لم أفارق تفاؤلي، ولم يزل إيماني عميقا بعبارة الرافعي مع هذا لم يكن بإمكاني إلا أن أصْدُقَ القول فيما يخص الوطن الذي لم يتبدل فيه شيء عدا تقلبات السياسة التي تأخذنا لمنزلقات الكذب حين نحاول أن نأخذها على محمل الجد، إنهم يبدلون آرائهم كل يوم !
ولنحيل الحديث إلى حيث البهجة، سأخبركم عن الأشياء التي تشابكت وتعقدت وأردف بعضها بعضا، فنجمت عن جمال أبيض بهيج ! صناعة الخيط هذا بعض ما تعلمته خلال سنة الإجازة الإجبارية التي فرضتها الحرب، الجدات كلهن يتقنّه وربما شغفت به لأشبههن، ولم أزل أتعقب أثر تلك الحضارة في تفاصيل روحي وفي كل ما يتعلق بزمانهن المفعم بالصبر والعطاء، وبالأشياء الصغيرة التي عمرت زمن الطفولة الذي انطوى بغيابهن، تاركا بداخلي طفلة لا تكبر أبدا، حتى إذا ركنتُ إلى أنها كفّت عن الطيش، وتجاوزت إلى النضج، ولم  تعد ترقب نجم السماء الذي تتوهمه سائرا إلى جوارها، تفاجئني بتعنتها المتهّور النزق وتعود لما كانت فيه بعد أن أخذتها بالتأديب حينا من الدهر.
وبعد.. لا أعلم ماذا بشأنكم، أما عني فقد علمتني تعاقبات الأعوام – أن الأشياء التي نريدها بقوة وننتظرها بترقب يُحاذر الفوات- تبعث إشارات واهمة لتبقينا على حافة الانتظار أطول وقت ممكن، ثم لا تحدث في  الوقت الذي نريده نحن، بل في الوقت الذي تريده هي، بعض ما انتظره تركته مرغمة عالقا مع العام الذي مضى، ثم ولجت عامي الجديد خلوا منه قد أشفقت على نفسي والزمن أحمّله عناء ثقله مرتين.
ولقد تعلمت أيضا كيف أخلق لنفسي متسعا من فسحة النفس في عالم كل ما فيه يتسم بالإجبار، فغضضت الطرف عن أشيائي المزدحمات في قلبي، وفررت منها إلي رحابة الجدليات الوجودية التي تطالبني بإجابة عن كينونة الضمير، وكيف تترتب النتائج على الفعل، وعن قوانين الحياة التي لا تحابي أحدا، بل لم تزل تُمضي سننها لا تفرق في ذلك بين من يؤمن بنظام الكون وبين من يجحده. ثم وجدت عناء الفهم أهون ما يكون مقارنة بعناء الإفصاح، وبراح الفكر على اتساعه وتميّعه وصعوبة الإحاطة به، لا يكون شيئا مذكورا أمام منازلة الحرف، وصوغ البيان لاسيما وأن التعبير لا ينجم إلا عن التنقيب في الذات، ومواجهة الذاكرة المرهقة بالأشياء، ثم يكون من بعد ذلك مجازفة تكشف الأخطاء، ومصاعب التصحيح. ولم يزل القلم الموجوع يكابد مشقة التردد والحيرة، ويتقلب في مضانّ المعاني، حتى يشارف موكب الكلم وصولا مضارب الرضى ، فترفّ أعلام البهجة، ويسرّ الخاطر بشارة فوز بالمبتغى، وينتشي الشغب عودٌ على بدء.
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطفا أترك كلمة تعبر عن رأيك بالمحتوى .. شكرا لزيارتك .