نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

 #رسالة_عمران*

مرت خمس عشر عاما على هذه الحادثة، لكنها لم تزل ماثلة في قلبي كأنها بذرت شيئا منها في كياني فنمى على فيئها واستظل بظلالها، كنت في الخامسة عشر من العمر عندما وصلتني رسالة الحب الأولى في حياتي، رسالة طائشة مضحكة أكثرها قلوب حمراء وكلمة (أحبك) مغلوطة الهجاء تحمل في آخرها ياءا للتأنيث!

ارتجفت لها وتزلزلت روحي، لا أذكر أن شيئا من الفرح تسلل إلى قلبي بسبب منها، كل ما أذكره أنني لم أقوى على تمزيقها، ولم أقوى على الاحتفاظ بها مخافة أن يكتشف أمرها، ولم أدر ما أصنع بها .. وبعد طول حيرة اهتديت إلى دسها في جيب مخفي في حقيبة السفر التي أضع فيها أغراضي تحت سريري.

فنامت تلك الرسالة لأشهر هناك، وكنت أزورها لحظات خلوتي النادرة لأتذكر وجه عمران، ذاك الفتى ضئيل الحظ من الوسامة، لقد كان يقف بالساعات ينتظر جرس نهاية يوم الدراسة، ومن بين عشرات الفتيات اللاتي كن يعبرن شارعه كان يتوقف بنظره فوق وجهي لكأنني زهرته!

أذكر بأن الأمر كان مخجلا للغاية، واضطررت جرّاه لأن أغير الطريق مرارا، لكن رفقة زميلاتي كانت تغنيني أحيانا، وتخفف وطأة المشاعر فلا يبقى غير شيء من الارتباك لا يكاد يلحظه أحد، على هذا أسقطني ارتباكي ذات مرة أرضا ويا لخجلي كانت عينا عمران ترقبني حين نهضت وقد تلطخ معطفي الوردي.   

معطفي الوردي كان هدية أبي من إحدى أسفاره، معطفي وحذائي الأسود الأنيق ومقلمتي وكراساتي وكل شيء كنت أملكه كان مميزا يلفت انتباه زميلاتي فيسألنني عنه فأخبرهن - بكل ما أملك من تواضع - أنها أغراض يحضرها أبي من الخارج، أغراض رائعة تعوضني عن كل ما أشتهيه عندهن، لكنها لا تعبئ فراغات الحرمان في قلبي!

قد كان كل شيئا متوفرا لي عدا الحديث الدافئ المشجع الذي قد تسمعه فتاة من أبيها، في البيت كانت علاقتي بأبي أشبه بصحراء قفر من أي عاطفة، يسير فيها الراكب حذرا من عيون الرمال المتحركة، فلم يكن أبي يحتاج لسبب واضح ليغضب وينفجر ويعربد ويهدد ويحيل البيت إلى مقبرة من الصمت، فلا تسمع إلا همسا.

كنت وأخوتي بمختصر الحديث (نتجنبه) هكذا مضت أعمارنا، لا يربطنا به سوى طلب أذن أو غرض، على تخوف ومن بعد كر وفر ومكابدة آلام البوح بتلك الأشياء التافهة التي نحتاج لأبوته من أجل إنجازها، لم يكن يضربني البتة لكن حجم مخاوفي منه كانت تفوق عدد السياط التي خلقت على الأرض، وكل تودد من جانبه لا يفتأ ينقلب إلى سوء حال، بسبب من كلمة جارحة يلقيها دون أن يعرف بأنها والذبح سواء.

ثم كان وتشكلت شخصيتي ونضجت بين الكتب، وانفتحت على عالمي الخاص بعيدا تماما عنه، كان لابد لي أن أستقل بكياني لأكون مزيجا من الذكاء والتهذيب والحس العالي بالآخرين وأشياء جميلة أخرى ليس من بينها الحب!

لطالما سألت نفسي أين تبخرت عواطفي، في أي الطرقات ضيعتها، لقد كنت أعرف مسالك الحديث عن العلوم والأدب والكتب والأعمال وثقافات الشعوب والطبخ وكل شيء ألمت به مطالعاتي، لكن لم أسلك يوما حديثا إلى حيث عواطفي، ما الذي أحسه بالضبط .. كان ذاك صندوقي المغلق الذي لم يفتح لأقرب قريب.

كل الشجن والعذابات وويلات الحب الأول والثاني والأخير لم تكن قابلة للبوح كان هناك شيء مستغلق دونها يشبه الصمت المطبق عن جيشان العواطف يقبع في أشد بقع النفس غربة، ووحشة، وسكون بدواخلي.

فلم يكن أحدا يعرف شيئا غير ظاهر يسرني، شيء يشبه مساء مبهج علمت فيه أن أبي ينوي السفر من صباح الغد، كان معنى غيابه أن هناك فسحة من الحرية والضحك والسهر واللهو الذي لا تقلقه المخاوف. إنهما أسبوعان من الحديث بلا حذر وبلا ترقب لصوت ركن سيارته،  من الانطلاق خارج قوانين البيت الصارمة، فقد كانت أمي الصبورة معين لاينضب من الرأفة بنا وكان وجودها يعدل كفة ميزان حياتنا فلا يرجح إلى غياهب السجن المترف!

عدت من المدرسة على أصداء بهجة المساء لأجد أغراضي مقلوبة بجانب سريري! نظرت فلم أجد حقيبتي، ولم أكن بحاجة السؤال لأن الأمر واضح لقد احتاج أبي حقيبة أصغر لرحلته القصيرة فأعطته أمي حقيبتي بعد أن أفرغتها من كل شيء عدا رسالة عمران التي تتوسد إحدى جيوبها منذ أمد.

من المؤكد أني بالغت في انفعالي بتلك الحادثة، أذكر بأني التزمت صمتا مطبقا لم أستطع معه بلع شيء اكثر من الماء، وتغيبت عن المدرسة ثلاثة أيام لفرط عذاباتي وسهادي وأنا أتخيل أبي يدس يده في جيب الحقيبة فيجد الرسالة، وفي المرات التي غفوت فيها كنت أرى قلبا أحمرا كبيرا يهوي على رأسي كأنه صفعة قوية من يد أبي فيوقظني الفزع، وأسوء ما في الأمر أني لم أستطع طلب مساعدة أعز صديقاتي فلم يكن أحد يعرف حقيقة حياتي في بيت أبي.

وفي حلق الضيق التي خنقت تلك الأيام وجدتني أنهض من سريري منتصف الليل وأجلس بين يدي ربي لأقول له أنه وحده القوة المنقذة التي يمكنها أن تنتشلني من كابوسي هذا، قبلها لم أكن منضبطة في صلاتي أو لجوئي إليه لكن أربعة عشر يوما بائسة كانت كفيلة جدا بتأديبي، فنظر إليّ بعين الرأفة .. وفي مساء اليوم الخامس عشر وعندما حل السكون بالمنزل وعاد كل شيء إلى انضباطه، عاد أبي مبتهجا محملا بالأغراض والهدايا والحلوى التي فاضت بها حقيبتي، داخلتني السكينة لابتسامته في وجهي وأنسل الأسى رويدا، تحيّنت فرصة من غفلته ودسست يدي في ذاك الجيب المخفي والتقطت رسالة عمران، فكانت لقلبي أغلى من كل ما يحمله أبي.

مأتم في كتاب

 


بالأمس أتممت قراءة كتاب وقع بين يدي بمحض الصدفة ثم شدني إليه لأنه يتحدث ببراءة طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره حديثا يصدق برغمه، ويحاكي عالما أشبه بقوس قزح من خيالات الصغار

على أجنحة هذا الكتاب ولجت عالم الطفولة المتناهي في البعد عن خطوات الشيخوخة الأولى التي أتدرج نحوها حثيثا حتى وأنا أكابر واتشبث بتلك السنين الغاربات ورائي.
بين دفتي الكتاب عوالم متسعة من الخيال، وفيه اللهو الذي لا يعرف وقتا يحده، الذكاء المتعطش لمعرفة المزيد، الكلمات التي تتراصف وتبني في طريقها المعجم الأولي للأشياء، الشغب والشقاوة اللامسئولة، لقد أحببت الصغير (زيزا) لسيما وهو يكابد طفولة تعسة تلزمه كسب بنسات قليلة من وراء طاولة طلاء الأحذية التي يجرها على كتفيه الضئيلتين، كيف لصغير بعمره أن يفهم حزن أبيه العاطل عن العمل، وتعب أمه المجهدة في دوامة المصانع ليلا نهارا، حتى لا يسعها المجال لأن تكون له أما، في أحياء البرازيل المدقعة فقرا ولد الصغير بين دستة من الأشقاء، الجميع يتحرك بطريقة ما لكي تمضي عجلة الحياة، لكي يحتفظون بأنفسهم ملزمين ضمن قوائم الأحياء.
تمضي النهارات العابثة والليالي الحالمة، ويثبت الصغير جدراته في مدرسته لقد كان في قلبه عصفورا يغني، لكن شيطانه لا يفتأ يدفعه إلى مواطن الشغب المؤذي الذي يعرضه لزاما إلى العقوبة الصارمة بجلد مؤخرته.
ثم عشت مع زيزا فسحة ظليلة تحت جذع (شجرته شجرة البرتقال الرائعة)* ولم يخطر ببالي أن أتذمر للحظة من الثرثرة اللامنطقية بمقاييسي العاقلة، بل تركت قلبي ينزلق في عوالمه المفتقدة تماما من ذاكرتي، لقد كان شيئا منه ينبئي بالضرورة عن أحلامي وخيالاتي وشيئا من تجاربي المريرة آنذاك.
في تلك السن الصغيرة من العمر تكون حساسية المرء للأشياء بالغة الحدة، يبدو أن مشاغل العقل تكون أقل بكثير من أن تذكر، فتتسع عوالم الشعور وتحتفظ الذاكرة بقوة بتلك الأحداث المفصلية التي تكون غاية في الحب، ونقيضاتها تلك التي تكون غاية في البغض!
وعندما تعلق قلب زيزا بجاره بورتوجا الذي أذاقه طعم الحنان، كان تعلقه لا مسئولا، بلا أي تصورات حول المجريات الكبرى للحياة، ولا أي توقعات يمكن لأوهام الطفولة الأولى أن تطالها أو تضعها في الحسبان، حسنا حدث طارئ ما ..
فمن أي يأتي الأسى ؟
هل يأتي من إبداع مخيلة كاتب استطاع أن يرسم تفاصيل حياة الصغير حتى كأنه رسم يقع في القلب بلا شبهة، أم يأتي من الاحساس بمرحلة مغيبة خلف حياة ممتدة بكل مجرياتها وتجاربها وعثراتها وركضها المتصل حتى لا تسمح لك بمتنفس صغير ينفذ لتلك الأيام الأوائل من عتبات العيش.
أم أن الأسى هو مجرد انعكاس لأحداث ماض غائب تماما في ردهات الزمن ؟ لم يسمح لي دمعي المنساب وعبرتي التي تترقرق على أسطر الكتاب من إعمال فكري في موضع الأسى، لكن كنت قد وضعت يدي على مفتاح صغير يسمى الحنين إلى الرفق، الحاجة إلى القلب الذي يسع متاعبنا، والذي يمكن أن نفضي إليه بمكامن الهشاشة دون وخز الكبرياء.
كيف يمضي أحدنا عمرا بأكماله شامخا في وجه الحياة بلا سند يتكئ عليه لحظة الانكسارات الكبرى، كيف يتسنى لأحدنا أن يبتلع خيبة موجعة دون أن يحدث ضجة تنبئ أحدا ( لا سمح الله)عما يعتمل في الحلق وتشرق به الأنفاس.
وكيف أستطعنا مع كر الأيام والشهور والسنوات، أن نقصر أمالنا العريضة عن كل ما هو ملموس عاطفي مشبع بالاحساس، لنستبدله تمام بما هو واقع من مقتضيات العقل والإيمان، لقد تعلمنا بالتجربة والخطأ وبإعمال العقل وبنور من الهداية إلى إين نركن.
لكن يبقى لكل منا مأتمه الخاص الذي يشهده على محك بشريته، ويطلعه على شواهد ضعفه وحاجته، وعندما ودعت (زيزا) وأقفلت الكتاب، جعلت استرجع مأتمي الأخير متى كان ؟
لقد مضت بالضبط تسعة أشهر ( اكتمل حمله ) وحانت لحظة ولادته تماما مع مأتم الكتاب، فتذكرت الذي كان.
كنت قد تداويت من واحدة من أقسى تجارب حياتي، ذلك أن قدرا إلهيا تدخلا تدخلا حاسما ليضع حدا منطقيا وصادقا لوهم أوشك أن يتسلل وينبت بذرته فوق صدري، وبرغم امتناني لذاك القدر، ظل جانبي البشري يحن ويئن على الذي كان، واستبسلت فلم أسمح بسفح عبرتي - لكن منع الأشياء قد لا يعني غير تأجيلها فحسب - ذلك أنها أنهمرت مجتمعة كموسم مطير مؤجل، غادرت غيماته شمس مايو الدافئة خجلا من أن تنسكب قبل أوانها، وارتحلت إلى فبراير الكئيب البارد سدت بظللها وجه الأفق وضغطت على قلبي بسبب من مأتم في كتاب.
ثم أصبحت وقد ظلل الحزن أحداقي، وألم بي شيء من تصلب في ظهري، فتحت نافذتي للهواء البارد، وغادرت مسرعة لاستكمال ركضي المحموم، ولأهدي أسطري المستوحاة منه إليه .. (زيزا) الذي صار نسيا منسيا لولا صدفة وكتاب.
5. فبراير . 2024
اسم الكتاب المعني ( شجرتي شجرة البرتقال الرائعة)
وهو عمل أدبي فذ يدرس في مدارس الأدب البرازيلية وينصح الأساتذة في المعاهد الفرنسية طلبتهم بقراءته

جوليانا



جوليانا طفلة صغيرة لم تتجاوز العاشرة فيما أذكر، تملك ملامح جميلة ورثتها عن أسلافها الإنجليز الذين خلفتهم وراء البحر، حين هاجرت مع ذويها من الغزاة إلى بلاد الليبو السمراء الدافئة التي لم تظنيها 

أصقاع أوروبا. 

كانت الطفلة تشرق مع الشمس، وتمرح مع العصافير .. وتحلق، لولا أنها لا تملك جناحين! أحبها الجميع وألفوا طلتها الشقية، وضحكاتها البريئة وهي تمازح الصيادين وتلقي تحية الصباح بلثغة كلمات لا 

تستقيم لها. 

وكم من مرة أبكتها عثرة موجعة، وأسقطت ما جمعته من أصدافها الملونة التي لا تنفد .. لقد كان البحر يهديها كل يوم شيء جديد مفاجأة تستحق أن ترسم الدهشة بعينيها وتمحو أثر الوجع، هل كان 

البحر يحبها أيضا؟ لا أدري

ثم (كان) .. 
ذات نهار غيب المرض جوليانا، فافتقدها البحر، والنورس، والضياء، والصيادون، والأطفال الذين كانوا معها على مواعد اللعب، وصار للمكان وحشة مريبة .. يؤرقه الغياب!
وفي اليوم التالي توارت الشمس خلف أسراب من غيم الخريف الناعم، لم تُسمع زقزقة العصافير، تلبد الأفق .. ولم يكن الصباح بخير.
فقد شوهدت جوليانا للمرة الأخيرة على أعتاب الشاطيء، قبل أن يختطفها البحر إلى الأبد، هل كان البحر يحبها ؟ أيضا لا أدري*.

تماما ك(جوليانا) ..
بعض الأماكن لها علامات فارقة في الذاكرة يرتبط الوجود بها، لها في القلب نداء حنين يعيدنا إليها مهما ابتعدنا وظننا أنها شيء موصول بالماضي، يغذّه النسيان.
ثم تأخذنا إليها الخطى فجأة، وعلى غير موعد يعود الهوى، وتعود أماكن الطفولة حيث كان اللقاء الأول مع البحر ومفاجأت الامتداد الأزرق اللانهائي، وإذا اللهو موصول بالضحك فلا مكان للهموم.
#نفحات_أسبوعية

--------------------------------
 * مستوحى من التأصيل التاريخي لتسمية #(شاطيء_جليانة/بنغازي)

الذي ينقصك!

" قل لي بما تتبجح (تتفاخر) .. أقول لك ما الذي ينقصك! " ✒ لقائلها.
هذه العبارة النفسية شديدة الدقة بالغة الذكاء، لكن تحتاج لنظر ثاقب كي يحقق فيها أو لنقل يتحقق منها، حينها سنجد أن (الذي ينقصك) غالبا ما يكون نقص معنوي غير ظاهر للعيان، بحيث يصعب على المرء رصده من نفسه أو من الأخرين، هذا (الذي ينقصك) قد يكون شكلا من أشكال الوجع العاطفي في أحسن الأحوال، ويتدرج إلى الأسوء ليكون نوع من الجوع إلى ما في يد الأخرين، وهو مرادف للحسد المموه، وكلما كان الإنسان فارغا روحيا، كلما زادت هوة النقص هذه حدا لا قرار له.

أكثر الناس اليوم تحاول جرك إلى ميدان وضيع من المنافسة، هذا الميدان قائم بالكامل على مكتسبات الحياة، في حين إن الله سبحانه قرر مضمار مختلف تماما للمنافسة حصره بالكامل في مكتسبات الأخرة وأرشدنا للوسيلة التي نطوع بها مكتسبات الدنيا من أجل الهدف الأخروي الأهم، وقال تعالى (
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ  ).

ولنتحدث عن شخصية شهيرة ذكرت في القرأن، وهي شخصية قارون الذي كان يخرج على قومه في زينته فخرا وخيلاء فباغته الجزاء بالخسف، اللافت أن الله سبحانه لم يذكر شيئا عن تفاصيل الحياة الشخصية لقارون ولم يشير لداء (النقص) الذي كان يعانيه، لأنه ليس على المريض حرج.
لكنه سبحانه أكد إلى أن الجزاء كان بسبب منازعة رب العباد في فضله.
يقول قارون ( إنما أوتيته على علم عندي) والمقصد إنما اكتسبته بمعرفتي وأحميه بقوتي ولا معقب لأمري ومشيئتي فيما أملكه، فتفرجوا أيها الضعفاء على ما لا تقدرون عليه ولا تملكون مثله! ونسي أن الذي يعطي هو الذي ينزع، فجعله الله مثلا للذين يتفكرون.
صحيح أن الفخر شعور فطري كامن فينا وإنكاره بالكامل يخرجنا عن الطبيعة البشرية، لكن هناك شعرة تفصل العفوية عن سبق الإصرار، ولا يمكن لأمرئ أن يخطئها من نفسه وإلا لم يضع الله (التفاخر) تحت التكليف بالنهي، لذا كان قارون مسئولا عما حل به بشكل لا لبس فيه، ويبقى رصد ( الذي ينقصك) للفطنة والذكاء (وقد عزّ الكمال في الحياة)!

باب

يحكى بأن قصة الباب قديمة موغلة في جنبات الزمن، مذ وعى الإنسان ذاته، وشعر بأهمية حفظ خصوصيته عن الأخرين، فأبواب الغرف هي الأمان الأول بعد كينونة الجسد، لذا كان الشعور بالراحة غامرا كلما أوصدت الأقفال، وحُفظت ملمات الدواخل عما يتعذر البوح به. والباب مدخل الأشياء وبداية فك ملغز ما نجهله، وهو أول الإيحاء بتصور التفاصيل والغرائب والشخوص والحكايات والأسرار، وأبواب البيوت بعضها من خشب كابد مر السنين، وأخرى من خشب موشى مزكرش يوحي بذائقة الجمال والفن والحياة الطيبة التي لا تكدرها المخاوف. أما الأبواب التي هي من حديد فإنها تعكس حاجة المرء للأمن والدفاع وتفضح ثغرة الزمان الموحش وحادثات الليل الذي يغدر، فلا يغُرّنك منها الملون والمتنكر في زي الخشب! وللأبواب عتبات وفأل، وقيل أن عتبة البيت رمز لسيدته، فهي التي تصونه وتؤثثه وتحفظ دواخله وأسراره وتعكس روحها في أشياؤه ويبدو مزاجها في ترتيبه ونظافته! ويا ليت أبوابَ المدينةِ كلَّها .. تُسَدُّ وبابًا في فؤادِك يُفتَحُ فباب الذين نحبهم لا يوصد، نطرقه لحاجة أو بغير حاجة، نطرقه لنسلم أو لنخبر عن أشواقنا، نطرقه لأن ثرثرة الأبواب تحلو .. وهي قطعة من الوقت الذي لا يسترجع. إلى باب من لم نأت نطلب غيره .. بشرق من الأرض الفضاء ولا غرب يقول سبحانه : ( وأتوا البيوت من أبوابها) .. دلالة على حرمة البيوت، وتقريرا لفضيلة الاستئذان، وكناية عن نفاسة المصون الذي يستوجب إجلاله عما لا يليق به. وقيل : وقد وقفت على باب السؤال وذي .. يدي مددت أرتجي منك نيل يدي !! فللجنة أيضا أبواب، ويا عجبي من يدخل الجنة بلا إذن! ما حاجة الجنة للأبواب لولا أنها تحتجب عن المشتاقين حتى يسكنوها، وتخفي في قلبها ما لا يدرك! جعل الله أبوابكم صدرا يفتح .. لطيبات النسوم الغاديات.

المذنبة


بحسب اهتمامات الكاتبة .. يناقش الكتاب في مجمله أوضاع المرأة - منتصف القرن الثامن عشر- وما تعرضت له من المتاعب النفسية والجسدية بسبب الضغط الأسري والمجتمعي، لا فرق في ذلك بين طبقة النساء المترفات أو طبقة الخادمات وإن كانت المعاناة تبدو أشد وطأة لدى النساء الكادحات اللاتي يقضين معظم النهار في المطابخ وغرف التنظيف. على الجانب الآخر فإن الطبقة التي ترفل في المخمل تبدو الأقل حظا من الحرية، فهن مقيدات بنظرة المجتمع التي تضبطهن بإطار يصعب كسره ويستحيل معه الاحتفاظ بخصوصية الكيان أو التميز فلا خيارات في حياة فارغة تماما إلا من الزينة والموضة والحفلات التي تبدو فيها النساء نسخ تكرر بعضها!
أما الكتاب نفسه فهو بناء درامي متكامل يجمع التاريخ إلى الاجتماع إلى الطب وعلم النفس، ويستند فنيا على واقعة حقيقية تحكي جريمة قتل مروّعة حدثت بمدينة تورنتو الكندية طارت أصدائها إلى أمريكا وأوروبا وشغلت الرأي العام طويلا، فالفتاة المتهمة بالجريمة لم تتجاوز الخمسة عشر ربيعا آنذاك.
وقد صيغت الرواية في شكل محادثة طويلة بين الفتاة (المذنبة) وطبيب الأمراض العقلية الشاب الواعد الذي يحلم باكتشاف أكاديمي يبرزه، ولمزيد من التشويق يضعنا الكتاب في دوائر متداخلة بين وقائع ذكريات الفتاة، وأحداث من يوميات طبيبها الذي بدأ يفقد التفسير المنطقي ويعاني من اختلاط فكره ولنقُل بأنّه رحل دون أن يحرز ما جاء من أجله.
كقارئة .. أجد أن الكاتبة استطاعت ببراعة شد الانتباه منذ صفحاتها الأولى، ووظفت الكثير من التفاصيل الحقيقية عن حياة بطلتها لإضفاء الحيوية ولتضعنا أمام أدق تفاصيل حياتها كخادمة بدايةً وما تلقته من الدعم الإنساني من علاقتها بأعز صديقة لها - الأمر الذي أضاف ما يشبه الاتزان النفسي والوظيفي قبيل الكارثة التي نقلتها إلى حياة السجن وأهواله لاحقا.
والمثير في الرواية أنها تستطيع أن توصلك لتصور كامل عن كيفية ضياع شطر العمر في اللاشيء وكيف يمكن لحكم (السجن المؤبد) أن يلغي تماما ترتيبات الحياة الطبيعية للإنسان ويشطب كل ما له صلة بمعاني (الأمل)، مع هذا لم تهمل الكاتبة البناء الأدبي الشيق فقد اختارت لدعمه مقتطفات من القصائد والكتب والرسائل وضمنته شيء من المفاجأت الصادمة لقارئها.
بالإضافة إلى (نهاية) تبعث الراحة وتخفف وطأة الشد المرهق لتواتر الأحداث.
أمنح الكتاب 5 نجمات بجدارة، وإن كان ثمّ مأخذ فهو في الأمر المتعذر (روح الترجمة) التي عودنا عليها كبار المترجمين من أمثال (منير البعلبكي) رحمه الله، مع خالص التقدير لجهد المترجمة.
* أخيرا أؤكد أن (متعة الكتاب فالتفاصيل )