نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

شجرة البرتقال الرائعة (رواية)

 


بالأمس أتممت قراءة كتاب وقع بين يدي بمحض الصدفة ثم شدني إليه لأنه يتحدث ببراءة طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره حديثا يصدق برغمه، ويحاكي عالما أشبه بقوس قزح من خيالات الصغار

على أجنحة هذا الكتاب ولجت عالم الطفولة المتناهي في البعد عن خطوات الشيخوخة الأولى التي أتدرج نحوها حثيثا حتى وأنا أكابر واتشبث بتلك السنين الغاربات ورائي.
بين دفتي الكتاب عوالم متسعة من الخيال، وفيه اللهو الذي لا يعرف وقتا يحده، الذكاء المتعطش لمعرفة المزيد، الكلمات التي تتراصف وتبني في طريقها المعجم الأولي للأشياء، الشغب والشقاوة اللامسئولة، لقد أحببت الصغير (زيزا) لسيما وهو يكابد طفولة تعسة تلزمه كسب بنسات قليلة من وراء طاولة طلاء الأحذية التي يجرها على كتفيه الضئيلتين، كيف لصغير بعمره أن يفهم حزن أبيه العاطل عن العمل، وتعب أمه المجهدة في دوامة المصانع ليلا نهارا، حتى لا يسعها المجال لأن تكون له أما، في أحياء البرازيل المدقعة فقرا ولد الصغير بين دستة من الأشقاء، الجميع يتحرك بطريقة ما لكي تمضي عجلة الحياة، لكي يحتفظون بأنفسهم ملزمين ضمن قوائم الأحياء.
تمضي النهارات العابثة والليالي الحالمة، ويثبت الصغير جدراته في مدرسته لقد كان في قلبه عصفورا يغني، لكن شيطانه لا يفتأ يدفعه إلى مواطن الشغب المؤذي الذي يعرضه لزاما إلى العقوبة الصارمة بجلد مؤخرته.
ثم عشت مع زيزا فسحة ظليلة تحت جذع (شجرته شجرة البرتقال الرائعة)* ولم يخطر ببالي أن أتذمر للحظة من الثرثرة اللامنطقية بمقاييسي العاقلة، بل تركت قلبي ينزلق في عوالمه المفتقدة تماما من ذاكرتي، لقد كان شيئا منه ينبئي بالضرورة عن أحلامي وخيالاتي وشيئا من تجاربي المريرة آنذاك.
في تلك السن الصغيرة من العمر تكون حساسية المرء للأشياء بالغة الحدة، يبدو أن مشاغل العقل تكون أقل بكثير من أن تذكر، فتتسع عوالم الشعور وتحتفظ الذاكرة بقوة بتلك الأحداث المفصلية التي تكون غاية في الحب، ونقيضاتها تلك التي تكون غاية في البغض!
وعندما تعلق قلب زيزا بجاره بورتوجا الذي أذاقه طعم الحنان، كان تعلقه لا مسئولا، بلا أي تصورات حول المجريات الكبرى للحياة، ولا أي توقعات يمكن لأوهام الطفولة الأولى أن تطالها أو تضعها في الحسبان، حسنا حدث طارئ ما ..
فمن أي يأتي الأسى ؟
هل يأتي من إبداع مخيلة كاتب استطاع أن يرسم تفاصيل حياة الصغير حتى كأنه رسم يقع في القلب بلا شبهة، أم يأتي من الاحساس بمرحلة مغيبة خلف حياة ممتدة بكل مجرياتها وتجاربها وعثراتها وركضها المتصل حتى لا تسمح لك بمتنفس صغير ينفذ لتلك الأيام الأوائل من عتبات العيش.
أم أن الأسى هو مجرد انعكاس لأحداث ماض غائب تماما في ردهات الزمن ؟ لم يسمح لي دمعي المنساب وعبرتي التي تترقرق على أسطر الكتاب من إعمال فكري في موضع الأسى، لكن كنت قد وضعت يدي على مفتاح صغير يسمى الحنين إلى الرفق، الحاجة إلى القلب الذي يسع متاعبنا، والذي يمكن أن نفضي إليه بمكامن الهشاشة دون وخز الكبرياء.
كيف يمضي أحدنا عمرا بأكماله شامخا في وجه الحياة بلا سند يتكئ عليه لحظة الانكسارات الكبرى، كيف يتسنى لأحدنا أن يبتلع خيبة موجعة دون أن يحدث ضجة تنبئ أحدا ( لا سمح الله)عما يعتمل في الحلق وتشرق به الأنفاس.
وكيف أستطعنا مع كر الأيام والشهور والسنوات، أن نقصر أمالنا العريضة عن كل ما هو ملموس عاطفي مشبع بالاحساس، لنستبدله تمام بما هو واقع من مقتضيات العقل والإيمان، لقد تعلمنا بالتجربة والخطأ وبإعمال العقل وبنور من الهداية إلى إين نركن.
لكن يبقى لكل منا مأتمه الخاص الذي يشهده على محك بشريته، ويطلعه على شواهد ضعفه وحاجته، وعندما ودعت (زيزا) وأقفلت الكتاب، جعلت استرجع مأتمي الأخير متى كان ؟
لقد مضت بالضبط تسعة أشهر ( اكتمل حمله ) وحانت لحظة ولادته تماما مع مأتم الكتاب، فتذكرت الذي كان.
كنت قد تداويت من واحدة من أقسى تجارب حياتي، ذلك أن قدرا إلهيا تدخلا تدخلا حاسما ليضع حدا منطقيا وصادقا لوهم أوشك أن يتسلل وينبت بذرته فوق صدري، وبرغم امتناني لذاك القدر، ظل جانبي البشري يحن ويئن على الذي كان، واستبسلت فلم أسمح بسفح عبرتي - لكن منع الأشياء قد لا يعني غير تأجيلها فحسب - ذلك أنها أنهمرت مجتمعة كموسم مطير مؤجل، غادرت غيماته شمس مايو الدافئة خجلا من أن تنسكب قبل أوانها، وارتحلت إلى فبراير الكئيب البارد سدت بظللها وجه الأفق وضغطت على قلبي بسبب من مأتم في كتاب.
ثم أصبحت وقد ظلل الحزن أحداقي، وألم بي شيء من تصلب في ظهري، فتحت نافذتي للهواء البارد، وغادرت مسرعة لاستكمال ركضي المحموم، ولأهدي أسطري المستوحاة منه إليه .. (زيزا) الذي صار نسيا منسيا لولا صدفة وكتاب.
5. فبراير . 2024
اسم الكتاب المعني ( شجرتي شجرة البرتقال الرائعة)
وهو عمل أدبي فذ يدرس في مدارس الأدب البرازيلية وينصح الأساتذة في المعاهد الفرنسية طلبتهم بقراءته
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطفا أترك كلمة تعبر عن رأيك بالمحتوى .. شكرا لزيارتك .