نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

جوليانا





جوليانا طفلة صغيرة لم تتجاوز العاشرة فيما أذكر، تملك ملامح جميلة ورثتها عن أسلافها الإنجليز الذين خلفتهم وراء البحر، حين هاجرت مع ذويها من الغزاة إلى بلاد (الليبو) السمراء الدافئة التي لم تظنيها أصقاع أوروبا، كانت الطفلة تشرق مع الشمس، وتمرح مع العصافير، وتحلق، لولا أنها لا تملك جناحين! أحبها الجميع وألفوا طلتها الشقية، وضحكاتها البريئة وهي تمازح الصيادين وتلقي تحية الصباح بالدراجة البنغازية التي لا تستقيم لها. 

وكم من مرة أبكتها عثرة موجعة، وأسقطت ما جمعته من أصدافها الملونة التي جمعتها من بين كثبان الرمال، لقد كان البحر يهديها كل يوم شيئا جديدا، مفاجأة تستحق أن ترسم الدهشة بعينيها وتمحو أثر الوجع، هل كان البحر يحبها؟ لا أدري!

ثم (كان)

ذات نهار غيب المرض جوليانا، فافتقدها البحر، والنورس، والضياء، والصيادون، والأطفال الذين كانوا معها على مواعد اللعب، وصار للمكان وحشة مريبة، يؤرقه الغياب. وفي اليوم التالي توارت الشمس خلف أسراب من غيم الخريف الناعم، لم تُسمع زقزقة العصافير، تلبد الأفق، وما كان الصباح بخير، فقد شوهدت جوليانا للمرة الأخيرة تلهو على أعتاب الشاطئ، قبل أن يختطفها البحر إلى الأبد، في تلك البقعة البحرية غيب الثرى جسد جوليانا، ومنه اتخذت شبه الجزيرة الصغيرة - التي تطل على ميناء المدينة - اسمها، ثم أصبحت (جليانة) مركز المدينة السياحي**.

تاريخيا حدث أن كانت (معركة جليانة) أولى معارك مجاهدي بنغازي ضد المستعمر الإيطالي، الذي استلم المدينة (منزوعة السلاح) من الحاكم العثماني، وفي يوم الثامن عشر من أكتوبر لعام 1911 شارفت طلائع السفن الحربية الإيطالية على الوصول إلى ميناء بنغازي، ثم طالبت قيادة الأسطول الحربي أهالي المدينة بتسليمها طوعا.

وفي عام 1914 اجتاح وباء الكوليرا مدينة بنغازي، فأقام الإيطاليون مستشفى (الكرنتينة) للحجر الصحي في المنطقة، وبعد استقلال البلاد أقيم فيها نصب تذكاري يخلد شهداء معركة جليانة البالغ عددهم 500 شهيد.

 

تضم منطقة جليانة سلسلة من الفنادق السياحية، والمصائف، ويوجد بها أشهر سوق للأسماك (البنكينا)، غير أن موقعها الحيوي المطل على البحر المتوسط جعل منها معلما مميزا للمدينة، أما وجود الميناء خصوصا فقد حرك شريان الحياة الاقتصادية فيها، حيث تتراءى سفن النقل في غدوها ورواحها عابرة خط الأفق الأزرق.

وعلى رمال الشاطئ يصطاف سكان المدينة ليلا هربا من حر أغسطس ويلهو الصغار على المراجيح، ويجول باعة المرطبات ويضج المكان بحياة ما تلبث أن تسكن بحلول الخريف، (جليانة) واحدة من بعض الأماكن التي لها علامة فارقة في الذاكرة يرتبط الوجود بها، لها في القلب نداء حنين يعيدنا إليها مهما ابتعدنا وظننا أنها شيء موصول بما مضى من الزمان الأول، ثم تأخذنا إليها الخطى فجأة وعلى غير موعد يعود الهوى، وتعود أماكن الطفولة حيث كان اللقاء الأول مع البحر، ومفاجأة الامتداد الأزرق اللانهائي، وقرص الشمس الذي يتهادى في احمرار الشفق حتى يغيب.

** استهلال أدبي مستوحى من واقعة وفاة (جوليانا) ابنة القنصل الإنجليزي، الذي سميت على إثرها منطقة (جليانة) باسمها المتعارف عليه إلى يومنا هذا.

 

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطفا أترك كلمة تعبر عن رأيك بالمحتوى .. شكرا لزيارتك .