نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

برج عملاق



كتبت أقول لها :
لا أخفيك أدهشني كثيرا نص بهذا الحزم والشدة في حدة لهجته، قد كان على قدر من النقد والتهكم اللاذع والمستفز في بعض جوانبه، وجعلني أتساءل هل يمكن أن نقول للشمس أنت عظيمة لولا أنك حارقة، خاصة وأننا ندرك بطبيعة العقل الوجه الآخر للأشياء مهما بدت متكاملة، ولا يضير إدراكنا كون أدلته غير مشاهدة عيانا، وأقول بأنه مستفز لا لأنه محل لجدل قديم فحسب، بل لأنه يتناول جوانب غير معهودة، ويباين الانتقاد الذي نقرؤه مطولا عبر عشرات المقالات التي تعارض سياسة دولة الإمارات في إدارة مقدّراتها، واتجاهها العلماني- إن صح التعبير-وانفتاحها الكبير الذي يضرّ بالمكوّن الديني على وجه الخصوص، ويثير حنق الإنسان العربي الذي يفاخر باعتدادٍ بإسلامه وهو لا يقوم لصلاة الفجر!!   
وأنا بالطبع لست بصدد الدفاع عن دولة لا أعرف عنها إلا وجهها الدعائي المشرق، ولا لأبرر حجم الأنفاق المهول على كرنفالها السنوي، بل وأفضل قضاء عطلتي في مناطق الشرق من بلادي، على أن أشهد حفل رأس السنة مهما بدا باذخا في دبي، إن لي قناعات أخرى مخالفة تماما. لكن لا يمكنني المرور بمقال يتناول البرج العملاق دون أن أذكر إعجابي ودهشتي البالغين بهندسته الدقيقة، وفنون عمارته حديثة الطراز التي شيّدت قواعده وعانقت بقمته عنان السماء، أما وإن كان هذا البناء الفاخر لا يحوي نظام تصريف صحّي - وهو أبسط متطلبات العمارة وأكثرها إلحاحا - فإني لا ألتمس العذر أبدا لشركات التخطيط والتنفيذ على هذا الخطأ الجسيم الفادح !! .. لكن بالمقابل سأعترف -على وجه التقدير والامتنان -لشركات نقل المخلّفات بفضلها، لأنها تقوم بعملها على الوجه الأكمل الذي لا يظهر معه أي أثر لفداحة ذاك الخطأ، الأمر الذي لا يشكل أي نوع من الإزعاج ولا يضر بالوجه الحضاري لبناء بهذا الحجم.
وبعد.. في مدينتي المنكوبة بويلات الحرب، يرددون أرجوزة على سبيل الممازحة مع ما تحمله من معاني السخرية المريرة  تخبر: بأننا لم نعد نريد مدينتنا كمدينة دبي، نحن فقط نطمح لأن نحتفظ بالضي (الكهرباء).
هنا مربط الفرس، هنا نختلف أعطني مدينة من كرتون- على حد تعبيرك- تصون كرامة الإنسان، تحفظ أمنه، تحقق العدل، لا صوت فيها يعلو كلمة القانون، هذا ما يفتقده المواطن العربي أكثر من أي شيء آخر في الحياة، وهل تقاس الحضارة إلا بمثل هذه الأشياء، إن الاستثمار الحقيقي بنظري هو ما تحققه الدولة من مستوى معيشي يتّسم بالمثالية إلى حد ما، ذاك الذي يمكّن المواطن من حياة طبيعية لا يشعر فيها بالهوة الشاسعة التي تفصله عن مواطني الدول المتقدمة، ويشعره بإنسانيته وبقيمة وجوده على هذه الأرض.  
ثم ما الذي  تعنيه أزلية أهرامات مصر الشامخة منذ آلاف السنين، وكرامة الإنسان تهدر يوميا في طوابير الخبز والوقود، إن وجود تمثال "أبي الهول" رابضا بأرض القاهرة، لا يمكنه بحال أن يخفف شعور الأسى لذاك المواطن الذي لا يجد مأوى لأولاده، ولا يحلحل أدنى قضايا الفساد المتضخمة باضطراد صعودا لتصل رأس الدولة التي يفترض بها أن تكون مسئولة بشكل مباشر عنه، بعيدا عن دغدغة مشاعر الفخر بعتق التاريخ وأصالة الانتماء، لأن الجوع والتشرّد لا يبقي شيئا من تلك المعاني بل يبطش بها جميعا أول ما يبطش.  
في خمسينيات القرن المنصرم عندما كانت دبي مجموعة من الخيام على أرض قفر، من كثبان الرمال، كانت مدينتي إحدى المدن العربية الزاخرة بمبانيها وموانيها وتجارتها وحضارتها ومناراتها العلمية، فأين نحن اليوم من كل هذا لقد ذهبت الحضارة، وشوّه وجه الوطن، وتراجعت العقول بفعل التدمير الممنهج، وسياسة الإذلال والعنف والإكراه والتخويف التي تنتهجها الأنظمة العربية، بحيث أحالت كل اعتداد بالنفس واعتزاز بالأوطان مجرّد شعارات فارغة بما تناقض الواقع الحياتي المعاش يوميا. إن المقارنة الزمنية للنمو في عمر الدول تحسب لها لا عليها، لأنها تمنح دليلا واقعيا على سرعة الإنجاز والتطور، أما الأصالة فهي مكون أخلاقي تبنى عليه النفوس، ينعكس جليّا على الجانب الثقافي للمجتمعات ويحفظ هويّتها بإبراز الموروث، وهذا بطبيعة الحال مرتبطٌ وثيقا بإحساسها بالانتماء.     
إن الحضارة على وجه الحقيقة لا تثمّن بالبناء الذي يكتسب قيمته بمرور الزمن، بل هي ما يستثمر في مكوّن الإنسان نفسه، ما يجعل خيارات الرّقي به مفتوحة ومتعددة، ما يفتح أمامه مجالات الإبداع والتميّز، وما يسّهل متطلباته اليومية بحيث لا يحصر عقله الجبار على عِظمه في تفاهات المأكل والملبس والمسكن، وهي حقوق مفروغ منها إلا في دول العالم المتخلف الذي يفاخر بانتصارات الماضي، ويعيش فيه وإذا سألته عن المستقبل لا يجد بين يديه شيئا ليجيب به، لهذه الأسباب وأكثر تبدو دولة الإمارات نموذجا يليق بالحياة ويستحق بالفعل أن يشاد بها كدولة، حتى وإن اختلفنا معها في شيء من سياستهاللأمور يبقى حق ذكر المآثر قائما لا يسقطه هذا الاختلاف.
كان لهذا المقال أن يكون ردا وجيزا على مقال يتناول بالنقد دولة الإمارات وسياساتها في إدارة الأمور، وينزع عنها القيمة الحضارية كونها دولة حديثة النشأة مقارنة بمجموعة الدول العربية التي تملك حضارات موغلة في القدم، ثم استطال الرد بما يتناسب وحرقة الإنسان العربي الذي دفع الثمن غاليا في سبيل حقوقه، وعيشه بكرامة، ولم يزل يطرق مسارات التصحيح نحوهما، ذاك أنه لا شيء يضاهي الأوطان نفاسة حيث يطيب المقام ويهنأ العيش.
 ما يجدر بالذكر أن كاتبة المقال سحبته في غضون أيام من النشر، فكانت هذه وجهة نظر للجانب الآخر مما تناولته بنقدها، وددت لو يلتفت إليها وتقيّم.

   
   

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطفا أترك كلمة تعبر عن رأيك بالمحتوى .. شكرا لزيارتك .