نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

بانس



#ساعٍ
لكي تصل أو لا تصل (لا فرق مع ما لا تملكه)، يجب أن لا تهتم بالوجهة بقدر ما تهتم بالطريق المزدوج الذي يأخذ ويعيد، ويصل نقطة البداية المركبة ونقطة النهاية المعتمة عن التوقع، وبينهما ما لايقل عن ثلاثة أبعاد هلامية تحجز الفهم، وتعيق الرؤية، وتطيح بإشارات الطريق.
على هذا .. كان ساعي الضوء الألق الوفي، إلى الحد الذي يندر وجوده، يتجشم مصاعب التنقل ليوصل تلك الورقة البيضاء الخالية من أي جملة أو حتى حرف يهتدي به الفهم إلى حوادث القصة!
هي قصة ثلاثة أبعاد تحكي عن اللغة التي لا تفصح عن شيء، وعن فضاءٍ خيالي يدفع للجنون إن لم تستطع أن تتأكد أنك محرر من سطوته كل بضعة أيام، وبعد حقيقي يفصل بالمسافات المترامية ذاك البون الشاسع الذي يحد المشرق عن المغرب.
#بانس
وكانت (بانس) واحدة من الأقمار التسعة عشر التي تحيط بذاك الكوكب البعيد، الذي ينتظر منذ آلاف السنين أن يتم دورته حول الشمس، وبانس الكسولة كانت الوحيدة التي لم تنهي بعد دورتها حول كوكبها العجوز، كل جاراتها سبقنها لكنها ظلت تماطل وتضيع الوقت وتتفلت من واجباتها كي لا تصل، لا أحد كان يفهم لماذا تتصرف (بانس) بهذه الحماقة، ولا حتى كان لأحد أن يستوعب كيف لدافع من الإشراق الذي كانت جاراتها يحظين به دونها، كلما وصلت إحداهن قمة الوصل المداري، ألم تكن تُغْرها هبات الكون ولا تألق ذاك الشعاع الذهبي الذي يلف المكان، منبعثا من المدارات الثمانية عشر دون مدارها. 
لقد ظلت (بانس) طفلة طيلة الوقت تجيد الدوران حول ذاتها ببراعة، مع هذا لم تكن ساذجة كما كان يتصور الجميع، كل ما في الأمر، أنها كانت أضعف من أن تتمكن أن تخبر عن نفسها، فهي لم تستطع مثلا  أن تسأل أحدا يوما، عما إذا كان باستطاعتها أن تُحوّل مسار دورانها عن المسار النمطي الذي وُجدت فيه منذ اليوم الذي وعت فيه كينونتها، ولم تستطع أن تستأذن الكوكب العجوز فيما لو يُجيز لها أن تقفز عبر المدارات التسعة عشر لترى إن كان المكان (خارجا) يشبه ذاك المكان الذي يملأ تصورها! 
بالمقابل كانت تثق بأن لا قيمة لإشراق المدارات عند نقطة الوصول، فيما لو فقدت يومًا إشراق ذاتها، بالرغم من أنها لم تعرف الحرية إلا على شكل تلك الأفكار الصغيرة التي أطلقت ساقها للريح، تتعقب الخيالات وتقفز أنى لها أن تقفز داخل روحها المتسعة بشكل لا يصدق.
#الضوء
وذات مساء عاصف برياح الشمس اللازوردية، كان كل شيء غارق في سكون الكون، وحتى وشوشات جارتها كانت قد غفت منذ وقت بعيد، واستغرقن كلهن في شؤنهن الصغيرة الخاصة. 
(بانس) المؤرقة كانت ترقب السماء كعادتها، وبرغم أنها افتقدت ذاك البساط المخملي الحالك المرصع، لكن كان للّون مهابة الشمس، إنه يضفي بريقا خاصا على ليلها، ثمة ما لا يدرك ..
ذاك الضوء الذي يلوح ويختفي كان يخترق الحجب مرارا كأنّه يمضي باتجاهها، لكنه يختفي حتى لا يعود له أثر، فإذا استسلمت لنعاسها عاد ليظهر فتنتبه لعودته، وظل عمرا يلوح ويختفي وظلت عمرا ترقبه، فلا هو يصل ولا هي تغفو، وتواصل (بانس) تطلعها إليه في جو طليق من السكون الساحر، وبين إغفاءات الحلم وانتباهته، تورطت .. إذ أحست بذاك القيد الخفي الذي يأسر حريتها، ويتعدى على فضائها الداخلي الذي يحويها بلا حد ولا قيد، لقد بات الضوء يواجهها بلا ريب، وهو يقترب في جاذبية مضاعفة تختلف عن تلك التي تقيدها إلى مدارها، لقد أحست أن لحريتها أشواق تضع حدود لمسراتها بأن تفصح عن بداية الآلام.
#اضطراب
فإذا للبريد ألق وإذا للرسالة روح تشع، وإذا للفرح نبض كائن مدوخ، لقد كانت (بانس) المجنونة تقرأ الورق الأبيض بياض وهج الشمس البعيدة التي لا يطالها الأفق، وتعرف قبل أن تعرف نفسها حتى، بُعد المسافة التي يقطعها الضوء المرتقب ليأتها بالنص اللا مقروء، الذي يحدثها عن الأشياء البعيدة الكائنة في تصورها فحسب، وتعرف أيضا أن هذا الضوء الحبيب يخلق لها متسعا من السعادة في ذاته، وقد استسلمت له لتدفع الثمن من حيرتها وتطلعها وأشواقها، تماما كما تبدو سعادة الأشياء تامة في نقصها. 
وفي حين من الدهر الممتد في حياة هذا الكون الأزلي، ولما بلغ ببانس أسى الانتظار مبلغه، جربت أن تكتب بروحها كتابا إلى البعيد الذي يخلق لها فسحة سعادتها الخاصة، سعادتها في أن تكتب نصا لا يُقرأ فهو مجموعة كنايات بلا أحرف!
وسعادتها في معاناة الصعوبة الكائنة بين الإخفاء والإفصاح، وسعادتها في سعادته وهو يستشف ما لا يستطيعه غيره، فما أن أمسكت بقلم النور الذي استعارته من صاحب البريد في أخر زياراته، وكانت قد حلمت مرارا أن تشتكي ذاك الزمن المنقطع في سكون ظاهر، والذي كان يضج بالكلمات التي ليست بحاجة الساعي ليوردها، فهي أشبه بنور الشمس يعم المكان بلا كلل، حتى يتحول المكان ويبقى النور على حاله. 
كتبت إليه تخبره : أن إقرأ (بانس) بلا نصوص كما كانت تقرأوك، وأجبها بلا نصوص كما كانت تفهمك، وأعلم أنها تطيش في مدارها فلا تتمه، وتشع من داخلها لا من الخارج، وتنتظر كتابك بلا زمن يحد انتظارها، وهي لا تقلق أبدا فثم متسع كبير للأحلام (كما سمعت مرارا من كوكبها العجوز الذي يعرف أكثر مما تعرف هي بأطوار) لكنها تشتاق، وتضطرب للغياب، وتنزوي لا لتفهم كل شيء، ولكن لتحس كل شيء ولتستعذب ذاك الوجود المبهم الذي يلفها ويصيبها ببعض هذيان الطريق، وحلم الوصول إلى مستقر المدارات.
وفي لحظة من لحظاتها الماتعة مزقت (بانس) كتابها،  وقالت: إن الحياة أكثر تعقيدا من أن يضمها كتاب، إن الحياة وجدت لتعاش لذاتها لا لتكتب، وكل ما هو بحاجة الإفصاح هو بحاجة القيد والكلفة، وهو عرضة للغموض وسوء الفهم، تركت بانس قلمها جانبا وعادت ترقب النجوم وتهيم ببساط المخمل تتعقب الضوء تكرارا.
8/آبريل/2017
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطفا أترك كلمة تعبر عن رأيك بالمحتوى .. شكرا لزيارتك .