نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

#رسالة_عمران




مرت خمس عشر عاما على هذه الحادثة، لكنها لم تزل ماثلة في قلبي كأنها بذرت شيئا منها في كياني فنمى على فيئها واستظل بظلالها، كنت في الخامسة عشر من العمر عندما وصلتني رسالة الحب الأولى في حياتي، رسالة طائشة مضحكة أكثرها قلوب حمراء وكلمة (أحبك) مغلوطة الهجاء تحمل في آخرها ياء التأنيث!

ارتجفت لها وتزلزلت روحي، لا أذكر أن شيئا من الفرح تسلل إلى قلبي بسبب منها، كل ما أذكره أنني لم أقوى على تمزيقها، ولم أقوى على الاحتفاظ بها مخافة أن يُكتشف أمرها ولم أدر ما أصنع بها، فكرت عبثا وبعد طول حيرة اهتديت إلى دسها في جيب مخفي في حقيبة السفر التي أضع فيها أغراضي تحت سريري.

فنامت تلك الرسالة لأشهر هناك، وكنت أزورها لحظات خلوتي النادرة لأتذكر وجه عمران، ذاك الفتى ضئيل الحظ من الوسامة، لقد كان يقف بالساعات على ناصية الشارع، ينتظر جرس نهاية يوم الدراسة، ومن بين عشرات الفتيات اللاتي كن يعبرن شارعه كان يتوقف بنظره فوق وجهي لكأنني زهرته!

أذكر بأن الأمر كان مخجلا للغاية، واضطررت جرّأه لأن أغير الطريق مرارا، لكن رفقة زميلاتي كانت تغنيني أحيانا، وتخفف وطأة المشاعر فلا يبقى غير شيء من الارتباك لا يكاد يُلحظ، على هذا أسقطني ارتباكي ذات مرة أرضا ويا لخجلي كانت عينا عمران تراقبني حين نهضت وقد تلطخ معطفي الوردي ..   

معطفي الوردي كان هدية أبي من إحدى أسفاره، معطفي وحذائي الأسود الأنيق ومقلمتي وكراساتي وكل شيء كنت أملكه كان مميزا يلفت انتباه زميلاتي فيسألنني عنه فأخبرهن - بكل ما أملك من تواضع - أنها أغراض يحضرها أبي من الخارج، أغراض رائعة تعوضني عن كل ما أشتهيه عندهن لكنها لا تعبئ فراغات الحرمان في قلبي!

قد كان كل شيئا متوفرا لي عدا الحديث الدافئ المشجع الذي قد تسمعه فتاة من أبيها، في البيت كانت علاقتي بأبي أشبه بصحراء قفر من أي عاطفة، يسير فيها الراكب حذرا من عيون الرمال المتحركة، فلم يكن أبي يحتاج لسبب واضح ليغضب وينفجر ويعربد ويهدد ويحيل البيت إلى مقبرة من الصمت، فلا تسمع إلا همسا.

كنت وإخوتي بمختصر الحديث (نتجنبه) هكذا مضت أعمارنا، لا يربطنا به سوى طلب أذن أو غرض، على تخوف ومن بعد كر وفر ومكابدة آلام البوح بتلك الأشياء التافهة التي نحتاج لأبوته من أجل إنجازها، لم يكن يضربني البتة لكن حجم مخاوفي منه كانت تفوق عدد السياط التي خلقت على الأرض، وكل تودد من جانبي لا يفتأ ينقلب إلى سوء حال، بسبب من كلمة جارحة يلقيها دون أن يعرف بأنها والذبح سواء.

ثم كان وتشكلت شخصيتي ونضجت بين الكتب، وانفتحت على عالمي الخاص بعيدا تماما عنه، كان لابد لي أن أستقل بكياني لأكون مزيجا من الذكاء والتهذيب والحس العالي بالآخرين وأشياء جميلة أخرى ليس من بينها الحب!

لطالما سألت نفسي أين تبخرت عواطفي في أي الطرقات ضيعتها، لقد كنت أعرف مسالك الحديث عن العلوم والأدب والكتب والأعمال وثقافات الشعوب والطبخ وكل شيء ألمت به مطالعاتي، لكن لم أسلك يوما حديثا إلى حيث عواطفي، ما الذي أحسه بالضبط، كان ذاك صندوقي المغلق الذي لم يفتح لأقرب قريب.

كل الشجن والعذابات وويلات الحب الأول والثاني والأخير لم تكن قابلة للبوح كان هناك شيء مستغلق دونها يشبه الصمت المطبق عن جيشان العواطف يقبع في أشد بقع النفس غربة ووحشة وسكونا بدواخلي، فلم يكن أحدا يعرف عني شيئا غير ظاهري الذي يسرني إبداءه.

وذات مساء مبهج علمت فيه أن أبي ينوي السفر منذ صباح الغد، كان معنى غيابه أن هناك فسحة من الحرية والضحك والسهر واللهو الذي لا تقلقه المخاوف. إنهما أسبوعان من الحديث بلا حذر وبلا ترقب لصوت ركن سيارته، من الانطلاق خارج قوانين البيت الصارمة، فقد كانت أمي الصبورة معين لا ينضب من الرأفة بنا وكان وجودها يعدل كفة ميزان حياتنا فلا يرجح إلى غياهب السجن المترف!

عدت من المدرسة على أصداء بهجة المساء لأجد أغراضي مقلوبة بجانب سريري! نظرت فلم أجد حقيبتي، ولم أكن بحاجة السؤال لأن الأمر واضح لقد احتاج أبي حقيبة أصغر لرحلته القصيرة فأعطته أمي حقيبتي بعد أن أفرغتها من كل شيء عدا رسالة عمران التي تتوسد إحدى جيوبها منذ أمد.

من المؤكد أني بالغت في انفعالي بتلك الحادثة، أذكر بأني التزمت صمتا مطبقا لم أستطع معه بلع شيء أكثر من الماء، وتغيبت عن المدرسة ثلاثة أيام لفرط عذاباتي وسهادي وأنا أتخيل أبي يدس يده في جيب الحقيبة فيجد الرسالة، وفي المرات التي غفوت فيها كنت أرى قلبا أحمرا كبيرا يهوي على رأسي كأنه صفعة قوية من يد أبي فيوقظني الفزع، وأسوء ما في الأمر أني لم أستطع طلب مساعدة أعز صديقاتي فلم يكن أحد يعرف حقيقة حياتي في بيت أبي.

وفي حلق الضيق التي خنقت تلك الأيام وجدتني أنهض من سريري منتصف الليل وأجلس بين يدي ربي لأقول له أنه وحده القوة المنقذة التي يمكنها أن تنتشلني من كابوسي هذا، قبلها لم أكن منضبطة في صلاتي أو لجوئي إليه لكن أربعة عشر يوما بائسة كانت كفيلة جدا بتأديبي، فنظر إليّ رب الكون بعين الرأفة .. وفي مساء اليوم الخامس عشر وعندما حل السكون بالمنزل وعاد كل شيء إلى انضباطه، عاد أبي مبتهجا محملا بالأغراض والهدايا والحلوى التي فاضت بها حقيبتي، داخلتني السكينة لابتسامته في وجهي وأنسل الأسى رويدا، تحيّنت فرصة من غفلته ودسست يدي في ذاك الجيب المخفي والتقطت رسالة عمران، فكانت لقلبي أغلى من كل ما يحمله أبي.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطفا أترك كلمة تعبر عن رأيك بالمحتوى .. شكرا لزيارتك .