نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

توابل

 


لقد كان السوق العتيق (سوق الجريد) وكان بقلبه محل لبيع التوابل والعطريّة، المكسّرات والحلوى، وكل ما يلزم العادات والموروثات التي تتم بها بهجة الأفراح، ومناسبات الحج والعُمرة، ومناسبات الختان أو استقبال مولود جديد والكثير من الأشياء الأخرى.

وكان السوق عبارة عن شارع طويل ممتد، محدود في اتساعه ومسقوفٌ بكامله، يستمد بعض إضاءته الطبيعية عبر تفرعات الشوارع الصغيرة التي تقطعه كل بضعة أمتار، تنتشر المَحال التجارية على جانبيه وتضاء كلها بمصابيح الكهرباء لتستكمل إنارة الشمس المتسرّبة على استحياء، مَحال لكل شيء تقريباً لكنها على كثرة العدد وسعة التنوع لا تضاهي محلّا واحدا هو محل التوابل.

بمدينتي بنغازي لا أعرف مكانا له خصوصية محل التوابل، ما أن تلجه حتى ينقطع الأكسجين النقي، ويصبح الهواء مشبعا حد النخاع برائحة الزنجبيل والقرفة والحريف والعشبيّات المجففة. محل يسكر دهشةً في فوضاه، كأنه قطعةٌ من غابة استوائية بصناديقه الخشبية الغامقة، التي لم تزل تحتفظ بصلة من الأسرار الخفية والحكايات الشائكة، تربطها مع جذوع الشجر العتيق الذي اجتثت منه ذات زمان، ألوان البهارات على أصولها، أحمرٌ أحمر، وأصفرٌ أصفر، وتدرّجات من البني الذي يختطف العين عنوةً إلى حيث القهوة (لما دهتني دون عيني عينها ** لكن غب النظرتين وخيم) لقد استجاب القلب.

هنالك بالفعل يطيب المقام، تزدحم قفف من سعف النخيل تحوي القرنفل وأخرى لأوراق الورد وإكليل الجبل، الزعتر البري، النعناع والحبق المجفف، الحناء والبابونج، حبوب الهيل الناعمة والخُزامة واللبان العربي، وأشياء أخرى لا أعرفها، وإن أنسى لا أنسى نجمة البحر، عشرات منها محنّطة هناك، من الذي يشتري نجمة البحر محنّطة؟

على الرفوف الخشبية رصّ دُهن العود والعنبر وخشب الصندل والمسك الأبيض وماء الزهر، البخور والطيب، وأنواع الزيوت، التي تذكرني برائحة صندوق جدتي، وآه يا صندوق جدتي أين أنت الآن لأنازع فيك حقوق الميراث، وأستخلصك لنفسي، بصندوق جدتي رأيتها للمرة الأولى، قوالب من الصابون لا غلاف لها، قطّعت ببدائية رائحتها من زيت الزيتون، لا يغريك شراؤها البتة، لولا أنها تنتمي لهذا المكان، فمتى غامرت بنقودك الصغيرة ودسستها في هذه التجربة، تكشفت لك عن الجدوى كلها.

وفي السوق العتيق أيضا محال كثيرة للمجوهرات الفاخرة حيث تختبر الفتيات تجربة التعلق الفطري بالزينة الباهظة، رغبة في تملك الحلي، إن الذهب يعزي المرأة بحق، لكن ثمة أشياء أخرى تفعل فعله، ثمَّة أماكن تثير فينا روح الطبيعة البكر، لا حدود لحرية الانطلاق ولا لبساطة المبتغى حين نقصدها، وأخرى تقيدنا بحس من الشد إلى الزخرف والأبهة، وترهق العقل في متاهات الغاية ورغبات الحيازة، وهذا هو الفارق الذي ندركه قلبا فيطيل بنا المكوث حيث محل التوابل غير مأسوف على الأصفر الرنان.

وكنت قد اعتدت أن أنهي زيارتي مرورا بمحل الفطائر لأسُدّ الجوع الذي استثير عمدا بفعل رائحة التوابل، ثم مر وقت لا أعرف أطال كثيرا أم قصر، لكن ذات زيارة لم أجد محل التوابل بمحلّه، لقد امتدت له يد التوسعة فصار المكان ضعفين، واستُبدِلت الصناديق الخشبية، والرفوف بأخرى من الزجاج، ورصت بضائع الصين الجديدة التي لا يحصيها العدّ، وغاصت التوابل خجلى بينها، لقد غيّب الترتيب فتنة المكان الأول، وعاد الأكسجين صفرا من الرائحة فما أشبهه بمحلّات الذهب. (ثمّ مضت تلك السنين وأهلها ** فكأننا وكأنهم أحلام)


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطفا أترك كلمة تعبر عن رأيك بالمحتوى .. شكرا لزيارتك .