نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الطيف الانطوائي (لتفهم أكثر حول ميلك للعزلة)


 


مقدما بإمكانك اعتبار نفسك صاحب صفة وراثية تميل إلى الـ(لا اجتماعية) كنوع من تخفيف حدة لفظ (الانطوائية) والمخاوف التي قد تصاحب ذلك - حيث لا شيء يدعو للقلق البتة - فأصحاب الطيف الانطوائي ذو التدرج العالي، هم أشخاص طبيعيون جدا يتميزون بجملة من المواصفات غير الشاذة، تعالوا لنتعرف عليها هنا:

* إنهم أشخاص يميلون للهدوء والعزلة غالبا ويفضلون مرافقة أصدقائهم إلى الأماكن التي تتميز بالهدوء، بدلا من الأماكن والتجمعات الصاخبة، ينتابهم - بشكل متكرر- رغبة ملحة بالهروب من ضجيج الحياة.

* تجد أنهم من النمط الذي يرهقه المحادثات الهاتفية المطولة، والمحشوة بتفاصيل لا تهمهم بحال، إنهم يتهربون منها إلى استعمال الرسائل القصيرة.

* إنهم يعتنون بالوقت ويقلقهم الهدر، يحرصون بشدة على ملء فراغهم بنشاطات خاصة كمطالعة الكتب أو مشاهدة برامج هادفة أو مناقشة مواضيع هامة ذات أفكار عميقة مع أصدقائهم الأكثر شبها بهم.

* هم مستمعون جيدون ففي غالب الفرص التي تجمعهم مع الآخرين، تجدهم هدفا لتوجيه الحديث من قبل أشخاص قد لا تربطهم بهم كبير صلة، لأنهم يجيدون فن الإصغاء وعمق التحليل ولا يصدرون إجابات قاطعة دون إخضاعها لمزيد من الفهم والتمحيص.

*حتى علي صعيد أحداثهم ووقائعهم الشخصية بل ومناسباتهم الخاصة، هم من النمط الذي يغرقون في تحليل التفاصيل، وترتيب المعطيات ويقضون الكثير من الوقت مع أفكارهم وتصوراتهم وخططهم المستقبلية.

* يملكون دائرة اجتماعية محدودة وضيقة مقارنة مع الأشخاص الذين يستطيعون تكوين صداقات تتسم بالقرب مع من كان، يدهشهم كثيرا سلوك الانفتاح على الغرباء.

 * أصحاب الطيف الانطوائي في درجاته العليا غالبا ما يتمتعون بذاكرة تحفظ تفاصيل الأحداث بدقة برغم أنهم من أكثر من يستهلك قصاصات التذكير في نطاق أعمالهم اليومية.

 * هم يفضلون استخدام الكتابة كوسيلة للتعبير عن أنفسهم لأنفسهم وللآخرين، إذ أنهم من أكثر الأشخاص الذين يحافظون بانتظام على كتابة المذكرات كنوع من تفريغ الشحن العاطفي.

* هم قادة فاعلين جدا لأنهم أبعد ما يكونون عن المجازفة ويأخذون وقتهم في التفكير في كل الخيارات قبل اتخاذ القرارات، من ناحية أخرى هم يتركون فسحة الإبداع للآخرين ليسوا بتاتا من النمط الذي يحب أن يترك بصمته على كل صغيرة وكبيرة، إن العمل معهم متعة حقيقية فهم أبعد ما يكونوا عن سمة الاحتكار.

مفهوم الانطواء

مصطلح (الانطوائية) - بالتضاد مع (الانبساطية) - هو صفة طبيعة يحملها الإنسان كما يحمل لون عيون خضراء أو بشرة سمراء مثلا لا علاقة لذلك بطريقة النشأة ولا بتأثير البيئة، والتدرج الانطوائي هنا هو إشارة إلى تدرج حدة الرغبة في العزلة عن الآخرين يشبه تدرج حدة اللون الواحد من القاتم إلى الشفاف.

فالانطوائية لا تعتبر بحال من الأحوال خلل نفسي ولا يمكن تخيل أصحاب هذا الطيف أشخاص شاذين، منعزلين خلف شاشاتهم الرقمية منقطعين عن العالم الحقيقي أو معقدين اجتماعيا، بل إنك لا تكاد تميزهم عن غيرهم إلا بالاقتراب منهم والارتباط بهم بعلاقات متينة.

تقول سوزان كين الباحثة في السلوك الانطوائي " إن الأشخاص الذين يمثلون هذا الطيف - قياسا لحجم المجتمع هم شريحة كبيرة متسعة اتساع الثلث إلي الثلثين علي أقل التقديرات، إنهم متواجدون من حولك حتى و إن لم تدرك تصنيفهم، ذلك أن النزعة للانطواء ظاهرة طبيعية جدا ومتواجدة حتى قبل تشكل اللغة ودراسة السلوك، وهي لا تعني الخجل البتة بل تعني طريقة الاستجابة للتحفيز الاجتماعي، فالأشخاص المنفتحين يتعايشون مع عالم الضوضاء ويحتاجون الكثير من التحفيز من أجل الإنجاز بينما الأشخاص الانطوائيين يشعرون أكثر ما يشعرون بالحياة والقدرة والتمام عندما يكونون في بيئة هادئة ".

فاعلية الانطواء 

" يشير الميراث الثقافي لبناء الحضارات الإنسانية، أن العناصر الثلاثة التي ترتكز عليها أي حضارة تتمثل في: الإنسان، التراب، والوقت ثم مؤثر الدين الذي يدفع الإنسان للمضي قدما باتجاه التقدم بما يمنح النفس مبدأ تعزيز الشعور" مالك بن نبي، فالدين هنا هو الفكرة العميقة التي استغرقت أعظم قادة البشرية من الأنبياء والرسل عليهم السلام في أزمنة مكثفة من العزلة والتعبد والفكر من أجل تلقي الإلهام المقدس ومن ثم العودة إلي مجتمعاتهم لتبليغ الرسالة، في تدرج طبيعي من الخلوة إلي الصحوة، كما تشير الأبحاث أن أعظم القادة الذين أثروا في تاريخ البشرية بشكل فاعل وحقيقي كانوا من ذوي الشخصيات الانطوائية من أمثال روسا باركز وغاندي .

وتضيف سوزان كين " إن هؤلاء القادة لا يكثرون التحدث ويتميزون بالتواضع والعزلة، مع هذا استطاعوا الوقوف أمام الأضواء رغم أن كل جزء فيهم كان يحثهم على العكس، مظهرين قواهم الخاصة ومتربعين على رأس هرم التأثير الإيجابي، لا لأنهم يعشقون توجيه الآخرين وجذب الأضواء بل لأنهم لا يملكون خيارات أخرى فهم مدفوعون بشعور المسئولية اتجاه شعوبهم".

الدفع المضطرد نحو الانبساطية  

لما كان أصل الحضارة يقوم على الفكرة العميقة والمؤثرة التي تبنى على سمة التأمل والتفكير، نجد العكس تماما في أيامنا هذه، فهناك دعاوى كبرى للانفتاح على الآخرين فقد وجد الناس أنفسهم ملزمون لإثبات ذواتهم ضمن جموع الغرباء في التجمعات الاقتصادية أو الاجتماعية أو المؤتمرات الكبرى أو المناسبات العامة الآخذة فالاتساع بدلا مما ألفوه من تحجيم العمل ضمن دوائر مغلقة تتسم بالألفة مع أشخاصهم المقربين. 

" إن صفات الجذب والكاريزما أصبحت مهمة جدا وحتما تغيرت فكرة الميل للعزلة ليحل محلها عنوانين جذابة من مثل (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس) مع أن علماء النفس يؤكدون أن التواجد ضمن مجموعات يفرض علينا التصرف بصورة لا واعية من مراقبة وتقليد آراء وحتى معتقدات الآخرين، في تلاشي مؤكد لاستقلالية الفرد والانصياع اللاإرادي للأفراد الأكثر جاذبية في تلك المجموعات " سوزان كين.

وهذا ما يعرف على وجه التقريب بخلق الوعي الجمعي وهو ما يعرّض الفرد لخطر الديناميكية الجماعية بدل أن يولد أفكاره الخاصة به، وبالطبع هذه ليست دعوة إلى نبذ العمل الجماعي، بقدر ما هو نوع تأكيد على وجود شريحة واسعة من المجتمع يمكن أن تصبح أكثر فاعلية وإبداع بتوفر بيئة من الخصوصية لها.

توابل

 


لقد كان السوق العتيق (سوق الجريد) وكان بقلبه محل لبيع التوابل والعطريّة، المكسّرات والحلوى، وكل ما يلزم العادات والموروثات التي تتم بها بهجة الأفراح، ومناسبات الحج والعُمرة، ومناسبات الختان أو استقبال مولود جديد والكثير من الأشياء الأخرى.

وكان السوق عبارة عن شارع طويل ممتد، محدود في اتساعه ومسقوفٌ بكامله، يستمد بعض إضاءته الطبيعية عبر تفرعات الشوارع الصغيرة التي تقطعه كل بضعة أمتار، تنتشر المَحال التجارية على جانبيه وتضاء كلها بمصابيح الكهرباء لتستكمل إنارة الشمس المتسرّبة على استحياء، مَحال لكل شيء تقريباً لكنها على كثرة العدد وسعة التنوع لا تضاهي محلّا واحدا هو محل التوابل.

بمدينتي بنغازي لا أعرف مكانا له خصوصية محل التوابل، ما أن تلجه حتى ينقطع الأكسجين النقي، ويصبح الهواء مشبعا حد النخاع برائحة الزنجبيل والقرفة والحريف والعشبيّات المجففة. محل يسكر دهشةً في فوضاه، كأنه قطعةٌ من غابة استوائية بصناديقه الخشبية الغامقة، التي لم تزل تحتفظ بصلة من الأسرار الخفية والحكايات الشائكة، تربطها مع جذوع الشجر العتيق الذي اجتثت منه ذات زمان، ألوان البهارات على أصولها، أحمرٌ أحمر، وأصفرٌ أصفر، وتدرّجات من البني الذي يختطف العين عنوةً إلى حيث القهوة (لما دهتني دون عيني عينها ** لكن غب النظرتين وخيم) لقد استجاب القلب.

هنالك بالفعل يطيب المقام، تزدحم قفف من سعف النخيل تحوي القرنفل وأخرى لأوراق الورد وإكليل الجبل، الزعتر البري، النعناع والحبق المجفف، الحناء والبابونج، حبوب الهيل الناعمة والخُزامة واللبان العربي، وأشياء أخرى لا أعرفها، وإن أنسى لا أنسى نجمة البحر، عشرات منها محنّطة هناك، من الذي يشتري نجمة البحر محنّطة؟

على الرفوف الخشبية رصّ دُهن العود والعنبر وخشب الصندل والمسك الأبيض وماء الزهر، البخور والطيب، وأنواع الزيوت، التي تذكرني برائحة صندوق جدتي، وآه يا صندوق جدتي أين أنت الآن لأنازع فيك حقوق الميراث، وأستخلصك لنفسي، بصندوق جدتي رأيتها للمرة الأولى، قوالب من الصابون لا غلاف لها، قطّعت ببدائية رائحتها من زيت الزيتون، لا يغريك شراؤها البتة، لولا أنها تنتمي لهذا المكان، فمتى غامرت بنقودك الصغيرة ودسستها في هذه التجربة، تكشفت لك عن الجدوى كلها.

وفي السوق العتيق أيضا محال كثيرة للمجوهرات الفاخرة حيث تختبر الفتيات تجربة التعلق الفطري بالزينة الباهظة، رغبة في تملك الحلي، إن الذهب يعزي المرأة بحق، لكن ثمة أشياء أخرى تفعل فعله، ثمَّة أماكن تثير فينا روح الطبيعة البكر، لا حدود لحرية الانطلاق ولا لبساطة المبتغى حين نقصدها، وأخرى تقيدنا بحس من الشد إلى الزخرف والأبهة، وترهق العقل في متاهات الغاية ورغبات الحيازة، وهذا هو الفارق الذي ندركه قلبا فيطيل بنا المكوث حيث محل التوابل غير مأسوف على الأصفر الرنان.

وكنت قد اعتدت أن أنهي زيارتي مرورا بمحل الفطائر لأسُدّ الجوع الذي استثير عمدا بفعل رائحة التوابل، ثم مر وقت لا أعرف أطال كثيرا أم قصر، لكن ذات زيارة لم أجد محل التوابل بمحلّه، لقد امتدت له يد التوسعة فصار المكان ضعفين، واستُبدِلت الصناديق الخشبية، والرفوف بأخرى من الزجاج، ورصت بضائع الصين الجديدة التي لا يحصيها العدّ، وغاصت التوابل خجلى بينها، لقد غيّب الترتيب فتنة المكان الأول، وعاد الأكسجين صفرا من الرائحة فما أشبهه بمحلّات الذهب. (ثمّ مضت تلك السنين وأهلها ** فكأننا وكأنهم أحلام)


#رسالة_عمران




مرت خمس عشر عاما على هذه الحادثة، لكنها لم تزل ماثلة في قلبي كأنها بذرت شيئا منها في كياني فنمى على فيئها واستظل بظلالها، كنت في الخامسة عشر من العمر عندما وصلتني رسالة الحب الأولى في حياتي، رسالة طائشة مضحكة أكثرها قلوب حمراء وكلمة (أحبك) مغلوطة الهجاء تحمل في آخرها ياء التأنيث!

ارتجفت لها وتزلزلت روحي، لا أذكر أن شيئا من الفرح تسلل إلى قلبي بسبب منها، كل ما أذكره أنني لم أقوى على تمزيقها، ولم أقوى على الاحتفاظ بها مخافة أن يُكتشف أمرها ولم أدر ما أصنع بها، فكرت عبثا وبعد طول حيرة اهتديت إلى دسها في جيب مخفي في حقيبة السفر التي أضع فيها أغراضي تحت سريري.

فنامت تلك الرسالة لأشهر هناك، وكنت أزورها لحظات خلوتي النادرة لأتذكر وجه عمران، ذاك الفتى ضئيل الحظ من الوسامة، لقد كان يقف بالساعات على ناصية الشارع، ينتظر جرس نهاية يوم الدراسة، ومن بين عشرات الفتيات اللاتي كن يعبرن شارعه كان يتوقف بنظره فوق وجهي لكأنني زهرته!

أذكر بأن الأمر كان مخجلا للغاية، واضطررت جرّأه لأن أغير الطريق مرارا، لكن رفقة زميلاتي كانت تغنيني أحيانا، وتخفف وطأة المشاعر فلا يبقى غير شيء من الارتباك لا يكاد يُلحظ، على هذا أسقطني ارتباكي ذات مرة أرضا ويا لخجلي كانت عينا عمران تراقبني حين نهضت وقد تلطخ معطفي الوردي ..   

معطفي الوردي كان هدية أبي من إحدى أسفاره، معطفي وحذائي الأسود الأنيق ومقلمتي وكراساتي وكل شيء كنت أملكه كان مميزا يلفت انتباه زميلاتي فيسألنني عنه فأخبرهن - بكل ما أملك من تواضع - أنها أغراض يحضرها أبي من الخارج، أغراض رائعة تعوضني عن كل ما أشتهيه عندهن لكنها لا تعبئ فراغات الحرمان في قلبي!

قد كان كل شيئا متوفرا لي عدا الحديث الدافئ المشجع الذي قد تسمعه فتاة من أبيها، في البيت كانت علاقتي بأبي أشبه بصحراء قفر من أي عاطفة، يسير فيها الراكب حذرا من عيون الرمال المتحركة، فلم يكن أبي يحتاج لسبب واضح ليغضب وينفجر ويعربد ويهدد ويحيل البيت إلى مقبرة من الصمت، فلا تسمع إلا همسا.

كنت وإخوتي بمختصر الحديث (نتجنبه) هكذا مضت أعمارنا، لا يربطنا به سوى طلب أذن أو غرض، على تخوف ومن بعد كر وفر ومكابدة آلام البوح بتلك الأشياء التافهة التي نحتاج لأبوته من أجل إنجازها، لم يكن يضربني البتة لكن حجم مخاوفي منه كانت تفوق عدد السياط التي خلقت على الأرض، وكل تودد من جانبي لا يفتأ ينقلب إلى سوء حال، بسبب من كلمة جارحة يلقيها دون أن يعرف بأنها والذبح سواء.

ثم كان وتشكلت شخصيتي ونضجت بين الكتب، وانفتحت على عالمي الخاص بعيدا تماما عنه، كان لابد لي أن أستقل بكياني لأكون مزيجا من الذكاء والتهذيب والحس العالي بالآخرين وأشياء جميلة أخرى ليس من بينها الحب!

لطالما سألت نفسي أين تبخرت عواطفي في أي الطرقات ضيعتها، لقد كنت أعرف مسالك الحديث عن العلوم والأدب والكتب والأعمال وثقافات الشعوب والطبخ وكل شيء ألمت به مطالعاتي، لكن لم أسلك يوما حديثا إلى حيث عواطفي، ما الذي أحسه بالضبط، كان ذاك صندوقي المغلق الذي لم يفتح لأقرب قريب.

كل الشجن والعذابات وويلات الحب الأول والثاني والأخير لم تكن قابلة للبوح كان هناك شيء مستغلق دونها يشبه الصمت المطبق عن جيشان العواطف يقبع في أشد بقع النفس غربة ووحشة وسكونا بدواخلي، فلم يكن أحدا يعرف عني شيئا غير ظاهري الذي يسرني إبداءه.

وذات مساء مبهج علمت فيه أن أبي ينوي السفر منذ صباح الغد، كان معنى غيابه أن هناك فسحة من الحرية والضحك والسهر واللهو الذي لا تقلقه المخاوف. إنهما أسبوعان من الحديث بلا حذر وبلا ترقب لصوت ركن سيارته، من الانطلاق خارج قوانين البيت الصارمة، فقد كانت أمي الصبورة معين لا ينضب من الرأفة بنا وكان وجودها يعدل كفة ميزان حياتنا فلا يرجح إلى غياهب السجن المترف!

عدت من المدرسة على أصداء بهجة المساء لأجد أغراضي مقلوبة بجانب سريري! نظرت فلم أجد حقيبتي، ولم أكن بحاجة السؤال لأن الأمر واضح لقد احتاج أبي حقيبة أصغر لرحلته القصيرة فأعطته أمي حقيبتي بعد أن أفرغتها من كل شيء عدا رسالة عمران التي تتوسد إحدى جيوبها منذ أمد.

من المؤكد أني بالغت في انفعالي بتلك الحادثة، أذكر بأني التزمت صمتا مطبقا لم أستطع معه بلع شيء أكثر من الماء، وتغيبت عن المدرسة ثلاثة أيام لفرط عذاباتي وسهادي وأنا أتخيل أبي يدس يده في جيب الحقيبة فيجد الرسالة، وفي المرات التي غفوت فيها كنت أرى قلبا أحمرا كبيرا يهوي على رأسي كأنه صفعة قوية من يد أبي فيوقظني الفزع، وأسوء ما في الأمر أني لم أستطع طلب مساعدة أعز صديقاتي فلم يكن أحد يعرف حقيقة حياتي في بيت أبي.

وفي حلق الضيق التي خنقت تلك الأيام وجدتني أنهض من سريري منتصف الليل وأجلس بين يدي ربي لأقول له أنه وحده القوة المنقذة التي يمكنها أن تنتشلني من كابوسي هذا، قبلها لم أكن منضبطة في صلاتي أو لجوئي إليه لكن أربعة عشر يوما بائسة كانت كفيلة جدا بتأديبي، فنظر إليّ رب الكون بعين الرأفة .. وفي مساء اليوم الخامس عشر وعندما حل السكون بالمنزل وعاد كل شيء إلى انضباطه، عاد أبي مبتهجا محملا بالأغراض والهدايا والحلوى التي فاضت بها حقيبتي، داخلتني السكينة لابتسامته في وجهي وأنسل الأسى رويدا، تحيّنت فرصة من غفلته ودسست يدي في ذاك الجيب المخفي والتقطت رسالة عمران، فكانت لقلبي أغلى من كل ما يحمله أبي.

شجرة البرتقال الرائعة (رواية)

 


بالأمس أتممت قراءة كتاب وقع بين يدي بمحض الصدفة ثم شدني إليه لأنه يتحدث ببراءة طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره حديثا يصدق برغمه، ويحاكي عالما أشبه بقوس قزح من خيالات الصغار

على أجنحة هذا الكتاب ولجت عالم الطفولة المتناهي في البعد عن خطوات الشيخوخة الأولى التي أتدرج نحوها حثيثا حتى وأنا أكابر واتشبث بتلك السنين الغاربات ورائي.
بين دفتي الكتاب عوالم متسعة من الخيال، وفيه اللهو الذي لا يعرف وقتا يحده، الذكاء المتعطش لمعرفة المزيد، الكلمات التي تتراصف وتبني في طريقها المعجم الأولي للأشياء، الشغب والشقاوة اللامسئولة، لقد أحببت الصغير (زيزا) لسيما وهو يكابد طفولة تعسة تلزمه كسب بنسات قليلة من وراء طاولة طلاء الأحذية التي يجرها على كتفيه الضئيلتين، كيف لصغير بعمره أن يفهم حزن أبيه العاطل عن العمل، وتعب أمه المجهدة في دوامة المصانع ليلا نهارا، حتى لا يسعها المجال لأن تكون له أما، في أحياء البرازيل المدقعة فقرا ولد الصغير بين دستة من الأشقاء، الجميع يتحرك بطريقة ما لكي تمضي عجلة الحياة، لكي يحتفظون بأنفسهم ملزمين ضمن قوائم الأحياء.
تمضي النهارات العابثة والليالي الحالمة، ويثبت الصغير جدراته في مدرسته لقد كان في قلبه عصفورا يغني، لكن شيطانه لا يفتأ يدفعه إلى مواطن الشغب المؤذي الذي يعرضه لزاما إلى العقوبة الصارمة بجلد مؤخرته.
ثم عشت مع زيزا فسحة ظليلة تحت جذع (شجرته شجرة البرتقال الرائعة)* ولم يخطر ببالي أن أتذمر للحظة من الثرثرة اللامنطقية بمقاييسي العاقلة، بل تركت قلبي ينزلق في عوالمه المفتقدة تماما من ذاكرتي، لقد كان شيئا منه ينبئي بالضرورة عن أحلامي وخيالاتي وشيئا من تجاربي المريرة آنذاك.
في تلك السن الصغيرة من العمر تكون حساسية المرء للأشياء بالغة الحدة، يبدو أن مشاغل العقل تكون أقل بكثير من أن تذكر، فتتسع عوالم الشعور وتحتفظ الذاكرة بقوة بتلك الأحداث المفصلية التي تكون غاية في الحب، ونقيضاتها تلك التي تكون غاية في البغض!
وعندما تعلق قلب زيزا بجاره بورتوجا الذي أذاقه طعم الحنان، كان تعلقه لا مسئولا، بلا أي تصورات حول المجريات الكبرى للحياة، ولا أي توقعات يمكن لأوهام الطفولة الأولى أن تطالها أو تضعها في الحسبان، حسنا حدث طارئ ما ..
فمن أي يأتي الأسى ؟
هل يأتي من إبداع مخيلة كاتب استطاع أن يرسم تفاصيل حياة الصغير حتى كأنه رسم يقع في القلب بلا شبهة، أم يأتي من الاحساس بمرحلة مغيبة خلف حياة ممتدة بكل مجرياتها وتجاربها وعثراتها وركضها المتصل حتى لا تسمح لك بمتنفس صغير ينفذ لتلك الأيام الأوائل من عتبات العيش.
أم أن الأسى هو مجرد انعكاس لأحداث ماض غائب تماما في ردهات الزمن ؟ لم يسمح لي دمعي المنساب وعبرتي التي تترقرق على أسطر الكتاب من إعمال فكري في موضع الأسى، لكن كنت قد وضعت يدي على مفتاح صغير يسمى الحنين إلى الرفق، الحاجة إلى القلب الذي يسع متاعبنا، والذي يمكن أن نفضي إليه بمكامن الهشاشة دون وخز الكبرياء.
كيف يمضي أحدنا عمرا بأكماله شامخا في وجه الحياة بلا سند يتكئ عليه لحظة الانكسارات الكبرى، كيف يتسنى لأحدنا أن يبتلع خيبة موجعة دون أن يحدث ضجة تنبئ أحدا ( لا سمح الله)عما يعتمل في الحلق وتشرق به الأنفاس.
وكيف أستطعنا مع كر الأيام والشهور والسنوات، أن نقصر أمالنا العريضة عن كل ما هو ملموس عاطفي مشبع بالاحساس، لنستبدله تمام بما هو واقع من مقتضيات العقل والإيمان، لقد تعلمنا بالتجربة والخطأ وبإعمال العقل وبنور من الهداية إلى إين نركن.
لكن يبقى لكل منا مأتمه الخاص الذي يشهده على محك بشريته، ويطلعه على شواهد ضعفه وحاجته، وعندما ودعت (زيزا) وأقفلت الكتاب، جعلت استرجع مأتمي الأخير متى كان ؟
لقد مضت بالضبط تسعة أشهر ( اكتمل حمله ) وحانت لحظة ولادته تماما مع مأتم الكتاب، فتذكرت الذي كان.
كنت قد تداويت من واحدة من أقسى تجارب حياتي، ذلك أن قدرا إلهيا تدخلا تدخلا حاسما ليضع حدا منطقيا وصادقا لوهم أوشك أن يتسلل وينبت بذرته فوق صدري، وبرغم امتناني لذاك القدر، ظل جانبي البشري يحن ويئن على الذي كان، واستبسلت فلم أسمح بسفح عبرتي - لكن منع الأشياء قد لا يعني غير تأجيلها فحسب - ذلك أنها أنهمرت مجتمعة كموسم مطير مؤجل، غادرت غيماته شمس مايو الدافئة خجلا من أن تنسكب قبل أوانها، وارتحلت إلى فبراير الكئيب البارد سدت بظللها وجه الأفق وضغطت على قلبي بسبب من مأتم في كتاب.
ثم أصبحت وقد ظلل الحزن أحداقي، وألم بي شيء من تصلب في ظهري، فتحت نافذتي للهواء البارد، وغادرت مسرعة لاستكمال ركضي المحموم، ولأهدي أسطري المستوحاة منه إليه .. (زيزا) الذي صار نسيا منسيا لولا صدفة وكتاب.
5. فبراير . 2024
اسم الكتاب المعني ( شجرتي شجرة البرتقال الرائعة)
وهو عمل أدبي فذ يدرس في مدارس الأدب البرازيلية وينصح الأساتذة في المعاهد الفرنسية طلبتهم بقراءته

جوليانا





جوليانا طفلة صغيرة لم تتجاوز العاشرة فيما أذكر، تملك ملامح جميلة ورثتها عن أسلافها الإنجليز الذين خلفتهم وراء البحر، حين هاجرت مع ذويها من الغزاة إلى بلاد (الليبو) السمراء الدافئة التي لم تظنيها أصقاع أوروبا، كانت الطفلة تشرق مع الشمس، وتمرح مع العصافير، وتحلق، لولا أنها لا تملك جناحين! أحبها الجميع وألفوا طلتها الشقية، وضحكاتها البريئة وهي تمازح الصيادين وتلقي تحية الصباح بالدراجة البنغازية التي لا تستقيم لها. 

وكم من مرة أبكتها عثرة موجعة، وأسقطت ما جمعته من أصدافها الملونة التي جمعتها من بين كثبان الرمال، لقد كان البحر يهديها كل يوم شيئا جديدا، مفاجأة تستحق أن ترسم الدهشة بعينيها وتمحو أثر الوجع، هل كان البحر يحبها؟ لا أدري!

ثم (كان)

ذات نهار غيب المرض جوليانا، فافتقدها البحر، والنورس، والضياء، والصيادون، والأطفال الذين كانوا معها على مواعد اللعب، وصار للمكان وحشة مريبة، يؤرقه الغياب. وفي اليوم التالي توارت الشمس خلف أسراب من غيم الخريف الناعم، لم تُسمع زقزقة العصافير، تلبد الأفق، وما كان الصباح بخير، فقد شوهدت جوليانا للمرة الأخيرة تلهو على أعتاب الشاطئ، قبل أن يختطفها البحر إلى الأبد، في تلك البقعة البحرية غيب الثرى جسد جوليانا، ومنه اتخذت شبه الجزيرة الصغيرة - التي تطل على ميناء المدينة - اسمها، ثم أصبحت (جليانة) مركز المدينة السياحي**.

تاريخيا حدث أن كانت (معركة جليانة) أولى معارك مجاهدي بنغازي ضد المستعمر الإيطالي، الذي استلم المدينة (منزوعة السلاح) من الحاكم العثماني، وفي يوم الثامن عشر من أكتوبر لعام 1911 شارفت طلائع السفن الحربية الإيطالية على الوصول إلى ميناء بنغازي، ثم طالبت قيادة الأسطول الحربي أهالي المدينة بتسليمها طوعا.

وفي عام 1914 اجتاح وباء الكوليرا مدينة بنغازي، فأقام الإيطاليون مستشفى (الكرنتينة) للحجر الصحي في المنطقة، وبعد استقلال البلاد أقيم فيها نصب تذكاري يخلد شهداء معركة جليانة البالغ عددهم 500 شهيد.

 

تضم منطقة جليانة سلسلة من الفنادق السياحية، والمصائف، ويوجد بها أشهر سوق للأسماك (البنكينا)، غير أن موقعها الحيوي المطل على البحر المتوسط جعل منها معلما مميزا للمدينة، أما وجود الميناء خصوصا فقد حرك شريان الحياة الاقتصادية فيها، حيث تتراءى سفن النقل في غدوها ورواحها عابرة خط الأفق الأزرق.

وعلى رمال الشاطئ يصطاف سكان المدينة ليلا هربا من حر أغسطس ويلهو الصغار على المراجيح، ويجول باعة المرطبات ويضج المكان بحياة ما تلبث أن تسكن بحلول الخريف، (جليانة) واحدة من بعض الأماكن التي لها علامة فارقة في الذاكرة يرتبط الوجود بها، لها في القلب نداء حنين يعيدنا إليها مهما ابتعدنا وظننا أنها شيء موصول بما مضى من الزمان الأول، ثم تأخذنا إليها الخطى فجأة وعلى غير موعد يعود الهوى، وتعود أماكن الطفولة حيث كان اللقاء الأول مع البحر، ومفاجأة الامتداد الأزرق اللانهائي، وقرص الشمس الذي يتهادى في احمرار الشفق حتى يغيب.

** استهلال أدبي مستوحى من واقعة وفاة (جوليانا) ابنة القنصل الإنجليزي، الذي سميت على إثرها منطقة (جليانة) باسمها المتعارف عليه إلى يومنا هذا.

 

الذي ينقصك!

" قل لي بما تتبجح (تتفاخر) .. أقول لك ما الذي ينقصك! " ✒ لقائلها.
هذه العبارة النفسية شديدة الدقة بالغة الذكاء، لكن تحتاج لنظر ثاقب كي يحقق فيها أو لنقل يتحقق منها، حينها سنجد أن (الذي ينقصك) غالبا ما يكون نقص معنوي غير ظاهر للعيان، بحيث يصعب على المرء رصده من نفسه أو من الأخرين، هذا (الذي ينقصك) قد يكون شكلا من أشكال الوجع العاطفي في أحسن الأحوال، ويتدرج إلى الأسوء ليكون نوع من الجوع إلى ما في يد الأخرين، وهو مرادف للحسد المموه، وكلما كان الإنسان فارغا روحيا، كلما زادت هوة النقص هذه حدا لا قرار له.

أكثر الناس اليوم تحاول جرك إلى ميدان وضيع من المنافسة، هذا الميدان قائم بالكامل على مكتسبات الحياة، في حين إن الله سبحانه قرر مضمار مختلف تماما للمنافسة حصره بالكامل في مكتسبات الأخرة وأرشدنا للوسيلة التي نطوع بها مكتسبات الدنيا من أجل الهدف الأخروي الأهم، وقال تعالى (
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ  ).

ولنتحدث عن شخصية شهيرة ذكرت في القرأن، وهي شخصية قارون الذي كان يخرج على قومه في زينته فخرا وخيلاء فباغته الجزاء بالخسف، اللافت أن الله سبحانه لم يذكر شيئا عن تفاصيل الحياة الشخصية لقارون ولم يشير لداء (النقص) الذي كان يعانيه، لأنه ليس على المريض حرج.
لكنه سبحانه أكد إلى أن الجزاء كان بسبب منازعة رب العباد في فضله.
يقول قارون ( إنما أوتيته على علم عندي) والمقصد إنما اكتسبته بمعرفتي وأحميه بقوتي ولا معقب لأمري ومشيئتي فيما أملكه، فتفرجوا أيها الضعفاء على ما لا تقدرون عليه ولا تملكون مثله! ونسي أن الذي يعطي هو الذي ينزع، فجعله الله مثلا للذين يتفكرون.
صحيح أن الفخر شعور فطري كامن فينا وإنكاره بالكامل يخرجنا عن الطبيعة البشرية، لكن هناك شعرة تفصل العفوية عن سبق الإصرار، ولا يمكن لأمرئ أن يخطئها من نفسه وإلا لم يضع الله (التفاخر) تحت التكليف بالنهي، لذا كان قارون مسئولا عما حل به بشكل لا لبس فيه، ويبقى رصد ( الذي ينقصك) للفطنة والذكاء (وقد عزّ الكمال في الحياة)!