"لتفهم معاني ميلك للعزلة "
لطالما كنت من أولئك الأشخاص الذين يضيقون ذرعا بدردشات غرفة " الانتظار" بمكان عملي , يسمونها غرفة " الاستراحة " تلطفا , و أجد فيها سآمة الانتظار و ملله , بل جربت الهروب منها مرات كثيرة , و إجبار نفسي علي تقبلها مرات أكثر , و فشلت كل محاولاتي لأن أجد فيها متعة المحادثة و التآلف مع زملائي , عدا المرات القليلة التي تجمعني فيها صدف التوقيت مع أصدقائي ذوي النمط الخاص و المفضل عندي , كنت أفضل بكل امتنان أن أركن إلي أحد زواياها منشغلة بمطالعة كتاب مثلا , لكن نظرات التطفل , و إزعاج التساؤلات , يفقدك خصوصية التوحد إلي ذاتك , و يجبرك علي تقاسم اللحظات الأكثر مللا في يوم عملك مع أولئك المزعجين .
لست أبالغ , أن هذا الموضوع لن يكون شيقا بالنسبة إليك , ما لم تنطبق عليك جملة من المواصفات , تؤهلك لنسبة تتجاوز الاعتدال , في تدرج الطيف الانطوائي , حيث ستتفهم الشعور الحقيقي خلف الجزئية المملة من يوم عملي .
مقدما بإمكانك اعتبار نفسك صاحب صفة وراثية , تميل إلي ( اللا اجتماعية ) كنوع من تخفيف حدة لفظ ( الانطوائية ) , و المخاوف التي قد تصاحب ذلك - حيث لا شيء يدعو للقلق البتة - فأصحاب الطيف الانطوائي ذو التدرج العالي , هم أشخاص طبيعيون جدا , يتميزون بجملة من المواصفات غير الشاذة , تعالوا لنتعرف عليها معا .
إنهم أشخاص يميلون للهدوء والعزلة غالبا , و يفضلون مرافقة أصدقائهم إلي الأماكن التي تتميز بالهدوء , بدلا من الأماكن , و التجمعات الصاخبة , ينتابهم - بشكل متكرر- رغبة ملحة بالهروب من ضجيج الحياة .
تجد أنهم من النمط الذي يرهقه المحادثات المطولة , و المحشوة بتفاصيل لا تهمهم بحال , إنهم يتهربون منها إلي استعمال الرسائل القصيرة ( مسج ) تجنبا للمهاتفة إلا لضرورات معينة هم من يحددونها .
إنهم يعتنون بالوقت , و يقلقهم الهدر , بعكس كثير من الشخصيات المنفتحة علي الآخرين , يحرصون بشدة علي ملء فراغهم بنشاطات خاصة , كمطالعة الكتب , أو مشاهدة برامج هادفة , أو مناقشة مواضيع هامة , ذات أفكار عميقة , مع أصدقائهم الأكثر شبها بهم .
هم مستمعون جيدون , ففي غالب الفرص التي تجمعهم مع الآخرين , تجدهم هدفا لتوجيه الحديث من قبل أشخاص قد لا تربطهم بهم كبير صلة , لأنهم يجيدون فن الإصغاء , و عمق التحليل , و لا يصدرون إجابات قاطعة , دون إخضاعها لمزيد من الفهم , و التمحيص , فهم محل ثقة , و سداد رأي .
و حتى علي صعيد أحداثهم , و وقائعهم الشخصية , بل و مناسباتهم الخاصة , هم من النمط الذي يغرقون في تحليل التفاصيل ,و ترتيب المعطيات , و يقضون الكثير من الوقت مع أفكارهم , و تصوراتهم , و خططهم المستقبلية , مفضلين ذلك علي زيارة اجتماعية ملحة .
يملكون دائرة اجتماعية محددة , وضيقة , مقارنة مع الأشخاص الذين يستطيعون تكوين صداقات تتسم بالقرب , مع من كان , و في أي وقت , أو مكان كان , يدهشهم سلوك الانفتاح علي الغرباء , خاصة من مثل أولئك الذين يملئون غرف الانتظار ضجيجا , و يعقدون ارتباطات تصل لتبادل أرقام الهواتف من الجلسة الأولي !!
أصحاب الطيف الانطوائي , في درجاته العليا غالبا ما يتمتعون بذاكرة تحفظ تفاصيل الأحداث بدقة , بالرغم من أنهم من أكثر من يستهلك قصاصات التذكير , في نطاق أعمالهم اليومية .
هم يفضلون استخدام الكتابة كوسيلة للتعبير عن أنفسهم , لأنفسهم و للآخرين , إذ أنهم من أكثر الأشخاص الذين يحافظون بانتظام علي كتابة ( اليوميات ) , كنوع من تفريغ الشحن العاطفي , أو تدوين الأحداث الهامة , أو المشاريع المستقبلية , و حتى الأحلام المؤجلة .
هم قادة فاعلين جدا ؟ هل يدهشك هذا !!؟ نعم لأنهم أبعد ما يكونون عن المجازفة , و يأخذون وقتهم في التفكير في كل الخيارات , قبل اتخاذ القرارات , من ناحية أخرى إنهم يتركون فسحة الإبداع للآخرين , و يتيحون لهم فرصة الوصول بأفكارهم لتحقيق نجاحات مميزة , بإبداء الحلول و الاقتراحات الفاعلة , فيما يواجه خطة سير العمل , ليسوا من النمط الذي يحب أن يترك بصمته علي كل صغيرة و كبيرة من مجريات الأمور , العمل معهم متعة حقيقية فهم أبعد ما يكونوا عن سمة الاحتكار .
* مفهوم الانطواء
مصطلح ( الانطوائية ) , بالتضاد مع ( الانبساطية ) هو صفة طبيعة , يحملها الإنسان , كما يحمل لون عيون خضراء , أو بشرة سمراء مثلا , لا علاقة لذلك بطريقة النشأة , و لا بتأثير البيئة أو المجتمع .
و التدرج الانطوائي هنا هو إشارة إلي تدرج حدة الرغبة في العزلة عن الآخرين , و لما كان الاختلاف التكويني يباين الأشخاص , وجد أن صفة الانطواء التام , و الانبساط التام هما صفتان تنعدمان تماما , إلا في وجود خلل حقيقي في تركيب النفس يستدعي تدخل علاجي طبي , عدا ذلك يتدرج الناس في امتلاك هاتين الصفتين تدرج حدة اللون الواحد من الغمق القاتم إلي التفتح الشفاف .
فالانطوائية لا تعتبر بحال خلل نفسي , و لا يمكن تخيل أصحاب هذا الطيف أشخاص شاذين , منعزلين خلف شاشاتهم الرقمية , منقطعين عن العالم الحقيقي , أو معقدين اجتماعيا , بل إنك لا تكاد تميزهم عن غيرهم , إلا بالاقتراب منهم , و الارتباط بعلاقات من القربى والمعايشة .
تقول سوزان " كين الباحثة المهتمة بالسلوك الانطوائي , أن الأشخاص الذين يمثلون هذا الطيف - قياسا لحجم المجتمع - هم شريحة كبيرة , متسعة اتساع الثلث إلي الثلثين , علي أقل التقديرات , إنهم متواجدون من حولك حتى و إن لم تدرك تصنيفهم , ذلك أن النزعة للانطواء ظاهرة طبيعية جدا , و متواجدة حتى قبل تشكيل اللغة , و دراسة السلوك .
و هي لا تعني الخجل البتة , بل تعني طريقة استجابتك للتحفيز الاجتماعي , فالأشخاص المنفتحين يتعايشون مع عالم الضوضاء , و يحتاجون الكثير من التحفيز , بينما الأشخاص الانطوائيين , يشعرون أكثر ما يشعرون بالحياة , و القدرة , و التمام عندما يكونون في بيئة هادئة ".
* فاعلية الانطواء
" يشير الميراث الثقافي لبناء الحضارات , أن العناصر الثلاثة التي ترتكز عليها أي حضارة , تتمثل في : الإنسان , التراب , الوقت , ثم مؤثر الدين الذي يدفع الإنسان للمضي قدما باتجاه التقدم , بما يمنح النفس مبدأ الشعور " - مالك بن نبي .
فالدين هنا هو الفكرة العميقة التي استغرقت أعظم قادة البشرية , من الأنبياء , و الرسل عليهم السلام , في أزمنة مكثفة من العزلة , و التعبد , و الفكر , لتلقي الإلهام المقدس , و الوحي المنزل , و من ثم العودة إلي مجتمعاتهم , لتبليغ الرسالة , و تأدية الأمانة , في تدرج طبيعي , من الخلوة إلي الصحوة .
كما تشير الأبحاث أن أعظم القادة الذين أثروا في تاريخ البشرية بشكل فاعل , كانوا من ذوي الشخصيات الانطوائية ,من أمثال روسا باركز و غاندي .
و تضيف سوزان كين " إن هؤلاء القادة لا يكثرون التحدث , و يتميزون بالتواضع و العزلة ,مع هذا استطاعوا الوقوف أمام الأضواء , رغم أن كل جزء فيهم كان يحثهم علي العكس !!
مظهرين قواهم الخاصة , متربعين على رأس هرم التأثير الإيجابي ,لا لأنهم يعشقون توجيه الآخرين , و جذب الأضواء , بل لأنهم لا يملكون خيارات أخرى , فهم مدفوعون بشعور المسئولية اتجاه شعوبهم . "
* الدفع المضطرد نحو الانبساطية
لما كان أصل الحضارة يقوم علي الفكرة العميقة المؤثرة , التي تبنى علي التأمل و الفكر , نجد العكس تماما في أيامنا هذه , من دعوى الانفتاح الكبير علي الآخرين , فقد وجد الناس أنفسهم ملزمون لإثبات ذواتهم ,ضمن جموع الغرباء , في التجمعات الاقتصادية , أو الاجتماعية , أو المؤتمرات الكبرى , و المناسبات العامة , الآخذة في الاتساع , بدلا مما ألفوه من تحجيم العمل ضمن دوائر مغلقة من الألفة مع أشخاص مقربين .
" أن صفات الجذب , و الكاريزما , أصبحت مهمة جدا , و حتما تغيرت فكرة الميل للعزلة , ليحل محلها , عنوانين جذابة من مثل ( كيف تكسب الأصدقاء و تؤثر في الناس ) مع أن علماء النفس يؤكدون , أن التواجد ضمن مجموعات يفرض علينا التصرف بصورة لا واعية من مراقبة , و تقليد آراء وحتى معتقدات الآخرين , في تلاشي مؤكد لاستقلالية الفرد , و الانصياع اللا إرادي , للأفراد الأكثر جاذبية , في تلك المجموعات " سوزان كين
و من هنا يتعرض الفرد لخطر الديناميكية الجماعية , بدل أن يولد أفكاره الخاصة به , و بالطبع هذه ليست دعوة إلي نبذ العمل الجماعي , بقدر ما هو نوع تأكيد علي وجود شريحة واسعة من المجتمع , يمكن أن تصبح أكثر فاعلية و إبداع , بتوفر بيئة من الخصوصية لها .
فليس عليك بتاتا الشعور بالذنب , أو تلقي رسائل من النوع الذي ينتقد نمط عيشك الهادئ , و يجبرك علي الانفتاح , و الانطلاق بعيدا عن شعورك الحقيقي الذي يفضل الانطواء و العزلة , الأمر الذي سيجبرك حتما علي كسر الحاجز الفطري , و القيام بأعمال اندفاعية , حتى تصبح عملية الشد العكسي للإرادة , تحدث بصورة تلقائية دون أن تنتبه إليها , إن هذا شيء يحصل بالفعل , لكنه أشبه بأن تلج مجال المحاماة , بينما تكون رغبتك الحقيقة هي أن تصبح كاتبا , و هذا بالضبط ما حدث مع الباحثة في مجال السلوك سوزان كين ودفعها للبحث المطول خلف سلوكها الطبيعي لتثبته.
شاهد ايضا :
الإنسان يبحث عن المعنى
هل أحببت المقال .. يمكن أن أكتب لمدونتك شيء مشابه
عنواني علي منصة مستقل من هنا
لطالما كنت من أولئك الأشخاص الذين يضيقون ذرعا بدردشات غرفة " الانتظار" بمكان عملي , يسمونها غرفة " الاستراحة " تلطفا , و أجد فيها سآمة الانتظار و ملله , بل جربت الهروب منها مرات كثيرة , و إجبار نفسي علي تقبلها مرات أكثر , و فشلت كل محاولاتي لأن أجد فيها متعة المحادثة و التآلف مع زملائي , عدا المرات القليلة التي تجمعني فيها صدف التوقيت مع أصدقائي ذوي النمط الخاص و المفضل عندي , كنت أفضل بكل امتنان أن أركن إلي أحد زواياها منشغلة بمطالعة كتاب مثلا , لكن نظرات التطفل , و إزعاج التساؤلات , يفقدك خصوصية التوحد إلي ذاتك , و يجبرك علي تقاسم اللحظات الأكثر مللا في يوم عملك مع أولئك المزعجين .
لست أبالغ , أن هذا الموضوع لن يكون شيقا بالنسبة إليك , ما لم تنطبق عليك جملة من المواصفات , تؤهلك لنسبة تتجاوز الاعتدال , في تدرج الطيف الانطوائي , حيث ستتفهم الشعور الحقيقي خلف الجزئية المملة من يوم عملي .
مقدما بإمكانك اعتبار نفسك صاحب صفة وراثية , تميل إلي ( اللا اجتماعية ) كنوع من تخفيف حدة لفظ ( الانطوائية ) , و المخاوف التي قد تصاحب ذلك - حيث لا شيء يدعو للقلق البتة - فأصحاب الطيف الانطوائي ذو التدرج العالي , هم أشخاص طبيعيون جدا , يتميزون بجملة من المواصفات غير الشاذة , تعالوا لنتعرف عليها معا .
إنهم أشخاص يميلون للهدوء والعزلة غالبا , و يفضلون مرافقة أصدقائهم إلي الأماكن التي تتميز بالهدوء , بدلا من الأماكن , و التجمعات الصاخبة , ينتابهم - بشكل متكرر- رغبة ملحة بالهروب من ضجيج الحياة .
تجد أنهم من النمط الذي يرهقه المحادثات المطولة , و المحشوة بتفاصيل لا تهمهم بحال , إنهم يتهربون منها إلي استعمال الرسائل القصيرة ( مسج ) تجنبا للمهاتفة إلا لضرورات معينة هم من يحددونها .
إنهم يعتنون بالوقت , و يقلقهم الهدر , بعكس كثير من الشخصيات المنفتحة علي الآخرين , يحرصون بشدة علي ملء فراغهم بنشاطات خاصة , كمطالعة الكتب , أو مشاهدة برامج هادفة , أو مناقشة مواضيع هامة , ذات أفكار عميقة , مع أصدقائهم الأكثر شبها بهم .
هم مستمعون جيدون , ففي غالب الفرص التي تجمعهم مع الآخرين , تجدهم هدفا لتوجيه الحديث من قبل أشخاص قد لا تربطهم بهم كبير صلة , لأنهم يجيدون فن الإصغاء , و عمق التحليل , و لا يصدرون إجابات قاطعة , دون إخضاعها لمزيد من الفهم , و التمحيص , فهم محل ثقة , و سداد رأي .
و حتى علي صعيد أحداثهم , و وقائعهم الشخصية , بل و مناسباتهم الخاصة , هم من النمط الذي يغرقون في تحليل التفاصيل ,و ترتيب المعطيات , و يقضون الكثير من الوقت مع أفكارهم , و تصوراتهم , و خططهم المستقبلية , مفضلين ذلك علي زيارة اجتماعية ملحة .
يملكون دائرة اجتماعية محددة , وضيقة , مقارنة مع الأشخاص الذين يستطيعون تكوين صداقات تتسم بالقرب , مع من كان , و في أي وقت , أو مكان كان , يدهشهم سلوك الانفتاح علي الغرباء , خاصة من مثل أولئك الذين يملئون غرف الانتظار ضجيجا , و يعقدون ارتباطات تصل لتبادل أرقام الهواتف من الجلسة الأولي !!
أصحاب الطيف الانطوائي , في درجاته العليا غالبا ما يتمتعون بذاكرة تحفظ تفاصيل الأحداث بدقة , بالرغم من أنهم من أكثر من يستهلك قصاصات التذكير , في نطاق أعمالهم اليومية .
هم يفضلون استخدام الكتابة كوسيلة للتعبير عن أنفسهم , لأنفسهم و للآخرين , إذ أنهم من أكثر الأشخاص الذين يحافظون بانتظام علي كتابة ( اليوميات ) , كنوع من تفريغ الشحن العاطفي , أو تدوين الأحداث الهامة , أو المشاريع المستقبلية , و حتى الأحلام المؤجلة .
هم قادة فاعلين جدا ؟ هل يدهشك هذا !!؟ نعم لأنهم أبعد ما يكونون عن المجازفة , و يأخذون وقتهم في التفكير في كل الخيارات , قبل اتخاذ القرارات , من ناحية أخرى إنهم يتركون فسحة الإبداع للآخرين , و يتيحون لهم فرصة الوصول بأفكارهم لتحقيق نجاحات مميزة , بإبداء الحلول و الاقتراحات الفاعلة , فيما يواجه خطة سير العمل , ليسوا من النمط الذي يحب أن يترك بصمته علي كل صغيرة و كبيرة من مجريات الأمور , العمل معهم متعة حقيقية فهم أبعد ما يكونوا عن سمة الاحتكار .
* مفهوم الانطواء
مصطلح ( الانطوائية ) , بالتضاد مع ( الانبساطية ) هو صفة طبيعة , يحملها الإنسان , كما يحمل لون عيون خضراء , أو بشرة سمراء مثلا , لا علاقة لذلك بطريقة النشأة , و لا بتأثير البيئة أو المجتمع .
و التدرج الانطوائي هنا هو إشارة إلي تدرج حدة الرغبة في العزلة عن الآخرين , و لما كان الاختلاف التكويني يباين الأشخاص , وجد أن صفة الانطواء التام , و الانبساط التام هما صفتان تنعدمان تماما , إلا في وجود خلل حقيقي في تركيب النفس يستدعي تدخل علاجي طبي , عدا ذلك يتدرج الناس في امتلاك هاتين الصفتين تدرج حدة اللون الواحد من الغمق القاتم إلي التفتح الشفاف .
فالانطوائية لا تعتبر بحال خلل نفسي , و لا يمكن تخيل أصحاب هذا الطيف أشخاص شاذين , منعزلين خلف شاشاتهم الرقمية , منقطعين عن العالم الحقيقي , أو معقدين اجتماعيا , بل إنك لا تكاد تميزهم عن غيرهم , إلا بالاقتراب منهم , و الارتباط بعلاقات من القربى والمعايشة .
تقول سوزان " كين الباحثة المهتمة بالسلوك الانطوائي , أن الأشخاص الذين يمثلون هذا الطيف - قياسا لحجم المجتمع - هم شريحة كبيرة , متسعة اتساع الثلث إلي الثلثين , علي أقل التقديرات , إنهم متواجدون من حولك حتى و إن لم تدرك تصنيفهم , ذلك أن النزعة للانطواء ظاهرة طبيعية جدا , و متواجدة حتى قبل تشكيل اللغة , و دراسة السلوك .
و هي لا تعني الخجل البتة , بل تعني طريقة استجابتك للتحفيز الاجتماعي , فالأشخاص المنفتحين يتعايشون مع عالم الضوضاء , و يحتاجون الكثير من التحفيز , بينما الأشخاص الانطوائيين , يشعرون أكثر ما يشعرون بالحياة , و القدرة , و التمام عندما يكونون في بيئة هادئة ".
* فاعلية الانطواء
" يشير الميراث الثقافي لبناء الحضارات , أن العناصر الثلاثة التي ترتكز عليها أي حضارة , تتمثل في : الإنسان , التراب , الوقت , ثم مؤثر الدين الذي يدفع الإنسان للمضي قدما باتجاه التقدم , بما يمنح النفس مبدأ الشعور " - مالك بن نبي .
فالدين هنا هو الفكرة العميقة التي استغرقت أعظم قادة البشرية , من الأنبياء , و الرسل عليهم السلام , في أزمنة مكثفة من العزلة , و التعبد , و الفكر , لتلقي الإلهام المقدس , و الوحي المنزل , و من ثم العودة إلي مجتمعاتهم , لتبليغ الرسالة , و تأدية الأمانة , في تدرج طبيعي , من الخلوة إلي الصحوة .
كما تشير الأبحاث أن أعظم القادة الذين أثروا في تاريخ البشرية بشكل فاعل , كانوا من ذوي الشخصيات الانطوائية ,من أمثال روسا باركز و غاندي .
و تضيف سوزان كين " إن هؤلاء القادة لا يكثرون التحدث , و يتميزون بالتواضع و العزلة ,مع هذا استطاعوا الوقوف أمام الأضواء , رغم أن كل جزء فيهم كان يحثهم علي العكس !!
مظهرين قواهم الخاصة , متربعين على رأس هرم التأثير الإيجابي ,لا لأنهم يعشقون توجيه الآخرين , و جذب الأضواء , بل لأنهم لا يملكون خيارات أخرى , فهم مدفوعون بشعور المسئولية اتجاه شعوبهم . "
* الدفع المضطرد نحو الانبساطية
لما كان أصل الحضارة يقوم علي الفكرة العميقة المؤثرة , التي تبنى علي التأمل و الفكر , نجد العكس تماما في أيامنا هذه , من دعوى الانفتاح الكبير علي الآخرين , فقد وجد الناس أنفسهم ملزمون لإثبات ذواتهم ,ضمن جموع الغرباء , في التجمعات الاقتصادية , أو الاجتماعية , أو المؤتمرات الكبرى , و المناسبات العامة , الآخذة في الاتساع , بدلا مما ألفوه من تحجيم العمل ضمن دوائر مغلقة من الألفة مع أشخاص مقربين .
" أن صفات الجذب , و الكاريزما , أصبحت مهمة جدا , و حتما تغيرت فكرة الميل للعزلة , ليحل محلها , عنوانين جذابة من مثل ( كيف تكسب الأصدقاء و تؤثر في الناس ) مع أن علماء النفس يؤكدون , أن التواجد ضمن مجموعات يفرض علينا التصرف بصورة لا واعية من مراقبة , و تقليد آراء وحتى معتقدات الآخرين , في تلاشي مؤكد لاستقلالية الفرد , و الانصياع اللا إرادي , للأفراد الأكثر جاذبية , في تلك المجموعات " سوزان كين
و من هنا يتعرض الفرد لخطر الديناميكية الجماعية , بدل أن يولد أفكاره الخاصة به , و بالطبع هذه ليست دعوة إلي نبذ العمل الجماعي , بقدر ما هو نوع تأكيد علي وجود شريحة واسعة من المجتمع , يمكن أن تصبح أكثر فاعلية و إبداع , بتوفر بيئة من الخصوصية لها .
فليس عليك بتاتا الشعور بالذنب , أو تلقي رسائل من النوع الذي ينتقد نمط عيشك الهادئ , و يجبرك علي الانفتاح , و الانطلاق بعيدا عن شعورك الحقيقي الذي يفضل الانطواء و العزلة , الأمر الذي سيجبرك حتما علي كسر الحاجز الفطري , و القيام بأعمال اندفاعية , حتى تصبح عملية الشد العكسي للإرادة , تحدث بصورة تلقائية دون أن تنتبه إليها , إن هذا شيء يحصل بالفعل , لكنه أشبه بأن تلج مجال المحاماة , بينما تكون رغبتك الحقيقة هي أن تصبح كاتبا , و هذا بالضبط ما حدث مع الباحثة في مجال السلوك سوزان كين ودفعها للبحث المطول خلف سلوكها الطبيعي لتثبته.
شاهد ايضا :
الإنسان يبحث عن المعنى
هل أحببت المقال .. يمكن أن أكتب لمدونتك شيء مشابه
عنواني علي منصة مستقل من هنا