نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

البحث عن (المعنى) بين كتابين




إن السؤال عن (المعنى) هو سؤال أزلي مركب لا يفتأ الإنسان يطرحه على نفسه منذ وعيه لكينونته الخاصة ومحيطه الخارجي، وهو سؤال يحمل في جوهره زخما من الأسئلة الوجودية حول الذات والخلق وهدف الوجود ومآلاته، وحول تعقيدات العلاقات الإنسانية وإلحاح الحاجة لضبط السلوك البشري وتقنينه عموما، هناك أسئلة أشد عمقا تتناول مغزى الألم والمعاناة والجدوى، وهل الموت هو خاتمة المطاف أم أن هناك وجودا آخر يعقبه.

كل هذه الأسئلة ونظائرها، تُبسط بسطا مفصلا في كتابٍ من أجود ما قرأت في بابه معنون بـ (معنى الحياة في العالم الحديث)* كتاب فذّ هو أقرب لأن يكون مبحثا علميا رصينا في تقصّي جذور أزمة (المعنى) ونشأة الإدراك الإنساني لهذا المفهوم وتجلياته عبر الوعي بالزمن، والهوية، والآخر، وفي مفهوم الفردانية، وانعكاس كل ذلك على البنية النفسية والعاطفية للذات، وكيف يتلمّس المرء طريقه للإجابة عن سؤاله الخاص : ما الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش؟ ما الذي يضفي المعنى على حياة الفرد؟

في الكتاب الثاني (الإنسان يبحث عن المعنى)* يتحول الحديث عن المعنى إلى ما يشبه القصة، لطبيب نمساوي يسرد أحداث تجربة اعتقال غاية في التطرف والقسوة داخل المعسكرات النازية، وبالطبع هو يتناول التجربة من جانبها السيكولوجي ليصف لنا طرق التكيف والمقدرة التي أعادته للحياة مجددا بعد تجربته المريرة تلك.

حيث يخبرنا د. فرانكل أن الإنسان الذي يجد في مسيرته هدفا يسعى إليه، يصبح وجوده ذا أهمية حقيقية، وتستحق حياته أن تُعاش، ولذلك هو يسعى لاستمرارها والاستمتاع بمغزاها، ففي حياة البعض كان المعنى هو ما يحملونه من مشاعر إنسانية تربطهم بالآخرين، ولدى البعض كانت الموهبة التي تميزهم، آخرون تمسكوا بالذكريات فكانت معنىً لوجودهم، والبعض وجد المعنى في العطاء.

على هذا يمكننا القول إن الحياة تحمل باعثا من المعاني التي لا تُحصى، لكن سر تفاوتنا حيال فهمها واستقرائها وغاية الاستفادة من آثارها ومنحها، يتمثل في إدراكنا الحقيقي لتلك المعاني وقوة تمسكنا بها حيث نعثر عليها، لتثمر.

غير أن وجود هدف حقيقي للنشاط الإنساني يعد على نحو ما جزءا من معناها فحسب، إذ يتضح في الكتاب الأول أن الأمر أشد تعقيدا، لأن (المعنى) بحسب تحليل الكاتب يرتبط بغائية الوجود، وبتلبية الحاجة لإيمان عميق، وبالالتزام الروحي ضمن الإطار الديني ومعاييره، ذلك "أن مشكلة الناس في القرن العشرين تتركز في (الخواء) لا أعني بقولي هذا إن معظم الناس لا يعرفون ماذا يريدون فقط، وإنما هم كذلك ليست لديهم فكرة واضحة بما يحسون"! رولو ماي.

بشكل عام يمكننا القول إن هموم الإنسان بحياته وقلقه بشأنها ومتاعبه لإثبات جدارتها لا يعدو كونه ضيقًا معنويّا غالبا، لذا تصبح قدرته على التعايش قيمة عظيمة لا تقدر بثمن حيث يمكن أن نصف هذه القدرة بأنها نظرة واعية للأمور بعيدا عن التعقيدات والقلق، وامتلاكه لقوة الإرادة التي تعزز عملية التكيّف والتجديد.

إن التعامل مع التغيرات السلبية المفاجئة بطريقة إيجابية خلاقة بعيدا عن ردة الفعل الموغلة في الكآبة – تلك التي تمنع نشاط العقل الواعي وتشوش الإدراك - من شأنها أن تمنحنا الاتزان اللازم لمواصلة الحياة، ويكاد يكون إدراكنا لـ (المعنى) الحقيقي هو العامل الوحيد الذي يصحح طريقة العيش والتكيف والاتزان، لكن ما السبيل لذلك الأدراك؟

إن الأديان السماوية أنزلت جميعها بمفاهيم مكثفة لمعنى الحياة وبسبل واضحة لإرشاد العقل بعيدا عن متاهة الشك، لكن رحلة الحياة الفعلية لا تخلو من التجارب الشاقة والقرارات المصيرية التي تأخذنا عنوة لتفقد ذاك المعنى، فمن لم يقده إدراكه قادته تجاربه، إن المعنى المقصود هنا أشبه ما يكون بالتعبئة الروحية، التي تنجم عن قوة المعتقد "وعند فحص تصورنا الإسلامي سنجد أن السردية المؤمنة التي يقدمها الوحي الإلهي تتأسس أولا وقبل كل شيء على التحقق الجازم أن المدار والأساس والغاية والمنتهى هو (الله) سبحانه، ولا يمكن أن تصح رؤية للعالم ولا معنى للوجود من دون أن يكون الإيمان الإلهي واليقين بالكمال المطلق والرعاية التامة هي ركنها الركين " الوهيبي، وعلى نحو مقارب يضيف د. فرانكل "إن الوجود الإنساني هو بالضرورة تسامٍ بالذات وتجاوز لها، أكثر من أن يكون تحقيقا للذات، لأن تحقيق الذات ليس هدفا ممكنا علي الإطلاق، وذلك لسبب بسيط وهو أنه بقدر ما يسعى الإنسان إليه بقدر ما يخفق في الوصول إليه" لماذا ؟

أليست ذواتنا في وجودها المدرك مجموعة مستمرة من الأهداف، والآمال، والأماني كلما بلغنا أحدها قادنا بالضرورة لآخر، دون أن يلوح في الأفق أي تصور للنهاية، إن الحياة الإنسانية برمتها تتردد بين مشاق الضيق والملل، فتحدث لنفسها سبلا لما يسمى بتحقيق الذات لا تنتهي بحال، لكن غايتها تتبلور في مكون واحد يمكن أن نسميه المعنى من الحياة، أو المعنى لأجل الحياة، ولأن هذه الحقيقة تتسم بالهُلامية إلي حد ما، كان تجاوزها إلي الحقائق الأكثر ثباتا والأقدر علي الدعم والمساندة أجدر ما علينا القيام به، "إن الدين في أوسع معانيه نظام توجيه وموضوع إخلاص، ولا يمكن فقدان الدين بهذا التعريف والمحافظة على السواء" المجتمع السوي، لإيرك فروم.

 

* لكاتبه عبد الله الوهيبي

* لكاتبه فيكتور فرانكل 

  
* الإنسان يبحث عن المعنى، أسم لكتاب يحمل دراسة فريدة موغلة في العمق، عن تجربة الحياة في معسكرات الاعتقال النازية، لصاحبه الدكتور فيكتور فرانكل أستاذ جامعة فيننا، ومؤسس المدرسة الثالثة في العلاج النفسي بالمعنى، بعد مدرستي فرويد، و آدلر النمساويتين .

بقلمي :مدون مستقل

شاهد أيضا : الطيف الانطوائي
 
 


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطفا أترك كلمة تعبر عن رأيك بالمحتوى .. شكرا لزيارتك .